الصمود والمقاومة في جنين . . !
" قتلوا أبنائي ونحسبهم عند الله شهداء، ورسالتنا أننا لن نتوقف، وسوف نبقى صامدين في وجه الاحتلال ". هذا ما قاله الفلسطيني الأصيل السيد فتحي الحازم، والد الشهيدين عبد الرحمن ورعد، فبدا صامدا ومتماسكا، يشيد بتضحيات ولديه في سبيل الوطن.
فعبد الرحمن استشهد في اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين خلال الأسبوع الماضي. ورعد استشهد في عملية فدائية، نفذها في تل أبيب في وقت سابق. فهل أمثال هذا الأب الذي ظهر مفتخرا بولديه الشهيدين، متمسكا بأرضه ومؤمنا بقضيته، يمكن أن تُكسر إرادته، وإرادة الشباب الذين يتوقون للشهادة، مهما طغى العدو وتجبر، في زمن الخنوع العربي؟ إنه السبيل الوحيد لتحرير وطنهم من يد المحتل الغاصب، مهما طال الزمن.
والمقاومة نشاط عسكري طويل الأمد، يجري خفية بين السكان المدنيين، شرّعتها القوانين والأنظمة الدولية، وهي نقيض للإرهاب الذي ينتهك حقوق الأنسان، ويقوّض الأمن والاستقرار في المجتمعات البشرية. ومن يُطلق عليهم صفة ( الإرهابيون ) فهو كاذب، لأن هؤلاء هم في الحقيقة ( مقاتلو الحرية )، الذين يسعون لتحرير وطنهم.
وقد لخّص ماوتسي تونج – الأب الروحي لحرب العصابات والمقاومة الشعبية – استراتيجيته في هذه الحرب بالعبارات التالية : " على رجل العصابات أن يكون صلبا كالفولاذ، قاطعا كالسف، بطّاشا كالنمر، مراوغا كالثعلب، هاربا كالأرنب، متحدثا لبقا، يستطيع أن يتحدث عن قضيته بلباقة، تُكسبه الأنصار والمؤيدين". كما لخصها جيفارا بقوله : " العصابات كالسمك تسبح في بحر صداقة الشعب "، بمعنى أن يساعدها الشعب في التخفي، وتأمينها بما يلزمها من الأسلحة الخفيفة والذخائر، والأمور اللوجستية، والمعلومات الاستخبارية، قدر المستطاع بسرية تامّة.
لقد أثبتت أحداث التاريخ، أن الأوطان التي تُنتهك سيادتها، وتستباح أراضيها من قِبل دولة اجنبية، لا يمكن لها أن تتحرر وتستعيد كرامتها، إلاّ بنشوء مقاومة وطنية جريئة وفاعلة، يمارسها الشعب على أرضه ضد المحتل أو المستعمر. وهناك الكثير من الأمثلة للمقاومة التي وقعت في العالم، ضد المحتلين أو المستعمرين، واستطاعت بتصميمها وشجاعتها، أن تحرر أوطانها وتحقق استقلالها وسيادتها. من هذه الدول على سبيل المثال : ايرلندا، أمريكا، فرنسا، فيتنام، كوريا، الصين، بولندا، بلغاريا، رومانيا، يوغسلافيا، إيطاليا، بلجيكا، النرويج، اليونان، وغيرها.
في أواخر السبعينات من القرن الماضي كنت أحد أعضاء وفد عسكري، برئاسة القائد العام للقوات المسلحة آنذاك، الشريف زيد بن شاكر عليه رحمة الله، في زيارة هي الأولى من نوعها إلى الاتحاد السوفييتي. وكان برنامج الزيارة يتضمن الاستماع لدور الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية. فاصطحبنا في أحد الأيام، إلى قمة جبل مرتفع في مدينة ليننجراد، لنشاهد بعض المعالم حول المدينة.
وهناك شاهدنا لوحة كبيرة من الجرانيت الصلب مثبتة على قمة الجبل، مكتوب عليها باللغة الروسية، ومتحدثة باسم حجر الجرانيت : " أتمنى أن أكون بصلابتكم يا أهل ليننجراد ". وهي عبارة تجسّد الصمود والمقاومة لأهل ليننجراد، عندما حاصرتها ثلاثة جيوش المانية لمدة 900 يوما في الحرب العالمية الثانية، وكانت تتعرض للقصف الجوي والمدفعي ليلا ونهارا. وتم قطع خطوط مواصلاتها وتوقفت عنها الإمدادات الإدارية طيلة تلك الفترة، لدرجة أن السكان أخذوا يبحثون في ( روث الخيل ) ليجدوا الشعير فيطحنوه بدلا من القمح ليأكلوه. حوصر في المدينة حوالي ثلاثة ملايين شخص، وعندما انتهى الحصار كان نصفهم قد توفوا بفعل القصف والجوع والبرد. لكن ليننجراد صمدت وقاومت وفشل الألمان في دخولها.
لقد سبق للشباب الفلسطينيين أن طبقوا بالبديهة معظم شروط حرب العصابات، خلال انتفاضاتهم ضد الإسرائيليين في عقد الثمانينات الماضي. تلك الانتفاضات التي أقضّت مضاجع الإسرائيليين، وكبدتهم الكثير من الخسائر في الأرواح البشرية. الأمر الذي جعل أصواتا من داخل إسرائيل تنادي بالسلام مع الفلسطينيين. فجاء المنع والقمع من قوى السلطة الفلسطينية، داعية إلى الحلول السياسية والتنسيق الأمني بين الطرفين، لتحقيق هدف الفلسطينيين، فمضى عليه ثلاثة عقود ولم يتحقق شيئا من الوعد.
واليوم ما على الشباب الفلسطينيين، الذين يتدفقون حماسا ووطنية، للدفاع عن أرضهم وقدسهم وكرامتهم، إلاّ أن يرفعوا راية المقاومة المسلحة معتمدين على أنفسهم، في السعي لتحرير وطنهم من الاحتلال الإسرائيلي، واسترداد حقوقهم المسلوبة، غير آبهين بكل دعوات التنسيق الأمني والحلول السياسية الفاشلة، وإيمانهم بأن النصر من عند الله، مصداقا لقوله تعالى :
( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).
أما الانهزاميون والمترددون، الذين يدّعون بأن الحل فقط بيد أمريكا، وأننا لا نستطيع أن نقاوم إسرائيل فهم واهمون. فنحن أقوياء وبأيدينا ورقة قوية هي " ورقة المقاومة ". ولا ينقصنا إلاّ الإرادة في استخدامها. وآمل أن يترجم الشعب الفلسطيني البطل، قدرته على استخدام ورقته الهامة من خلال الفعل فوق الساحة الفلسطينية، وأن نرى في يوم قادم قد نُصب على قمة جبل في جنين، لوحة من الجرانيت الصلب وقد كُتب عليها : " أتمنى أن أكون بصلابتكم يا أهل جنين ".