بذرة التوحش

 
يقول الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي في كتابه "ذكريات من منزل الأموات”، والذي حاول أن يوظف فيه تجربته الشخصية كسجين سياسي، في فهم تشكل نفسية وشخصية الجلاد، والوصول إلى البذرة التي تؤدي إلى التوحش: "إن خير إنسان يمكن أن يقسو قلبه، وأن يتوحش طبعه إلى درجة لا يمكن معها تمييزه عن حيوان كاسر مفترس. فالدم والسلطة يسكران، ويساعدان على نمو القسوة والفحش والفجور. فإذا الروح والعقل يصابان بالشذوذ، بحيث يجدان في أغرب الأمور عن الطبيعة السليمة لذّات كبيرة”.
وقد أيد ما ذهب إليه دوستويفسكي الكثير من التجارب العلمية التي أتت لاحقا، وحاولت سبر غور تشكل شخصية الجلاد. من أهمها، تجربة جامعة ستانفورد الشهيرة، التي قام بالإشراف عليها البروفيسور في الجامعة فيليب ريمباردو. إذ قسم خلالها فريقا من المتطوعين، جلّهم طلاب جامعيون، إلى حراس وسجناء، ووضعهم في سجن وهمي، وراقب التغيّر السلوكي الذي قد تحدثه طبيعة المكان، والدور الذي نيط بهم.
لم تكد تمضي ساعات على بداية التجربة، حتى لاحظ أن المتطوعين قد بدأوا بتقمص الأدوار التي نيطت بهم؛ فبدأت مظاهر القسوة وامتهان النفس البشرية تظهر بوضوح على السجّانين، والتي كادت أن تتطور إلى عنف جسدي، ما دفعه إلى إنهاء الاختبار قبل أوانه، وبعد مرور ستة أيام عليه.
وقد عززت نتائج التجربة فكرة "التنسيب المكاني”، والتي تقول إن الواقع هو الذي يسبب سلوك الأفراد، أكثر من أي شيء موروث في شخصيتهم. فبذور غرائز التوحش تكاد توجد في كل فرد من أفراد المجتمع، لكن غرائز الإنسان الحيوانية لا تنمو وحدها، بل تحتاج إلى عوامل مكانية وظرفية لتطغى هذه الغرائز، وتطمس جميع الملكات الإنسانية الأخرى؛ فيتحول الإنسان إلى مخلوق متوحش ومشوه.
وليس غريباً أن يكون السجن الحاضنة الأنسب لهذه التجارب؛ حيث السلطة المطلقة، والغطاء المجتمعي، ما يسهم في انغماس السجان في ممارسة قسوته إلى أقصى مدى. وقد لاحظ معظم من عاش تجربة السجن أن السّجّان يذهب بعيدا في توحشه، أكثر مما يفرضه عليه واجبه الوظيفي.
لكن السجن ليس البيئة الوحيدة الحاضنة للتوحش. فنحن نجد طغيان التوحش كلما سادت الفوضى وشريعة الغاب؛ فنجدها إبان الحروب والثورات تحت مسميات كثيرة، قد تختلف في العنوان والشكل، لكنها تصب في نتيجة واحدة.
فعندما يعتقد الإنسان أن لديه تفويضا من السلطة، سواء أكانت سلطة أرضية أم سماوية متخيلة، فإنه يوغل في القسوة والتوحش، حيث لا رادع ولا وازع، ولينتهي به الأمر إلى الإيمان بسلطته اللامحدودة على أجساد البشر وأرواحهم، والتي كلما أوغل فيها ازداد تعطشه للمزيد منها.
ويؤيد ما ذهب إليه العلماء، ما نقرأه هذه الأيام من شهادات حية لأناس عرفوا عن قرب العديد ممن انحرفوا عن الطريق، وأوغلوا في الوحشية، رغم أنهم كانوا أشخاصا أسوياء، لهم أحلامهم وحياتهم الخاصة، كما لسائر البشر. لكن ذلك كله تغير في لحظة زمانية ومكانية ما، لتنقلب رقتهم قسوة، لم تلبث أن استفحلت حتى أصبحت مرضاً.