الأبعاد الوطنية والقومية لقرار تعريب قيادة الجيش العربي
لم يكن قرار تعريب قيادة الجيش الذي اتخذه المغفور له الملك حسين بتاريخ 1 آذار سنة 1956 قرارًا إداريًا عاديًا، بل كان من أهم القرارات الكبيرة والتاريخية التي اتخذها الملك الشاب بعد ثلاث سنوات من استلامه مهام الحكم، وبعد ست وعشرين عاما من تولي (جون باغوت غلوب) (1897 – 1986) قيادة هذا الجيش مع عدد من الضباط البريطانيين.
وكان قد حدث تحول في بنية هذا الجيش؛ فبعد أن كان يعتمد في العشرينات على الفلاحين، أصبح قوامه من العشائر البدوية، وعشية الحرب العالمية الثانية وما بعدها كان أغلب الضباط الجدد الذي انضموا إلى صفوف الجيش من أصول حضرية، مما أحدث توازنا كميا بين الضباط من أصول بدوية والضباط من أصول حضرية.
ورغم حصول الأردن على الاستقلال في عام 1946، فقد زادت صلاحيات غلوب، وتكرست من خلال معاهدة التحالف الأردنية البريطانية، والتي كانت تقوم بريطانيا بموجبها بتقديم مساعدة مالية للأردن أغلبها للجيش، كانت توضع في حساب خاص للجيش، ولم تدرج ضمن موازنة الحكومة.
يمكن القول أن ما حدث عام 1948 من قيام الكيان الصهيوني على أجزاء من فلسطين، وبرغم قدرة الجيش العربي على الاحتفاظ بالضفة الغربية والقدس، إلا أن قيام اسرائيل شكّل صدمة لقطعات الجيش والضباط الأردنيين، وثار نقاش حول استراتيجية غلوب خلال الحرب، وما لبث هذا التقييم أن تحول إلى نشاط سياسي شبه منظم لأكثر من مجموعة من الضباط، تحمل أهدافا متداخلة كان أهمها الدخول في حرب مع اسرائيل، وتعريب قيادة الجيش، مما أفضى إلى بروز التنظيم السري للضباط الوطنيين الذي ما لبث أن غير اسمه إلى "الضباط الأحرار الأردنيين". وقد تمثلت النواة الأساسية لهذا التنظيم بعدد من الضباط، منهم: شاهر ابو شاحوت، ومحمود المعايطة، ونذير رشيد، وضافي الجمعاني.
كانت الحالة الوطنية السياسية في أوجها، فقد تصدرت برامج وبيانات الأحزاب السياسية كالبعث والشيوعي وحركة القوميين العرب، والاخوان والتحرير، والحزب الوطني الاشتراكي، مطالبات بضرورة تعريب قيادة الجيش، والذي يعني ضرب للنفوذ الاستعماري البريطاني في الأردن. وكان غلوب يستخدم الجيش للتصويت لمرشحي الحكومة، وتزوير الانتخابات، واسقاط المعارضين كما حصل في انتخابات عام 1954. وكان بنظر الشعب والأحزاب عنصرا أساسيا في النخبة السياسية الأردنية لا يمكن تجاوزها، ويعتبر من أعمدة الحكم في الأردن. كما كان لدوره في محاولة الترويج لحلف بغداد أثر في زيادة حدة النقمة السياسية عليه. ما ساهم في إضعاف صورة النظام السياسي داخليا وخارجيا.
ضمن هذه المعطيات قرر الملك حسين التخلص من غلوب الذي لم يكن على علاقة جيدة معه، واستعادة شعبية النظام، وتأكيد الامساك بزمام الأمور. ومع ذلك لم يكن قرار التعريب بدون مخاطر، فقد طرح الضباط الأحرار وآخرين كالشريف زيد بن شاكر إمكانية أن تحرك بريطانيا قواتها في الأردن لإرجاع غلوب بالقوة، وأن يتحرك قادة بريطانيون وبعض الضباط العرب الموالين لغلوب للقيام بعملية عسكرية لإعادته.
لذلك فقد وضعت خطة عسكرية محكمة بالاتفاق بين الملك حسين وتنظيم الضباط الأحرار، تقوم على تطويق معسكرات الوحدات البريطانية وقصفها عند الضرورة، واحتجاز القادة البريطانيين في الجيش، ومحاصرة وحدات عسكرية معروفة بولائها لغلوب. وقد أطلق على هذه العملية اسم "دنلوب". وهي اسم لولاعة كان يحملها محمود المعايطة – أحد قادة الضباط الأحرار- وتم تنفيذ العملية بكل سهولة..
في صباح يوم 1 اذار 1956 وصل الملك حسين مع رئيس وزرائه سمير الرفاعي (1901 – 1965) الى مكتبه، وهناك أخرج من جيبه ورقة سلمها إلى الرفاعي قائلا :"هذا أمر ملكي وأريد تنفيذه على الفور". وقرأ الرفاعي الأمر الملكي:" قررنا انهاء خدمة الفريق السير "جون باجوت غلوب" باشا ابتداء من هذه اللحظة، وعليه أن يغادر البلاد فورا"، وغادر الملك مقر رئاسة الوزراء.
طلب الرفاعي استدعاء وزير الدفاع فلاح المدادحة (1900- 1965)، وأخطره بالأمر الملكي، ثم طلب دعوة (غلوب) لمقابلته، حيث أبلغه بالقرار، خرج غلوب من مكتب رئيس الوزراء متوجها إلى السفارة البريطانية ليقابل السفير ويخبره بما جرى. وبعد استعراض لكل التطورات طرح السفير تشارلز جونستون (1956 – 1960) تساؤلا الح عليه "من تظنه وراء هذا الأمر أو على علم مسبق به : المصريون أو غيرهم؟ هل تظن أنّ اصدقائنا الأمريكان على علم بهذا الموضوع؟
جلس السفير البريطاني يكتب برقية إلى وزارة الخارجية في لندن التي وقع عليها النبأ وقع الصاعقة، وأسرع السفير عند منتصف الليل برسالة من انتوني ايدن إلى الملك يقول فيها مهددا :" إنّ العواقب ستكون وخيمة جدا عليك شخصيا وعلى الملكية، وعلى مستقبل الأردن كله".
نص قرار مجلس الوزراء رقم (198) على ما يلي:
. 1- انهاء خدمات الفريق غلوب من منصب رئيس أركان الجيش العربي الأردني
2- ترقية العقيد راضي عناب (1897 – 1993) إلى رتبة لواء، وتعيينه بمنصب رئيس أركان الجيش العربي الأردني، ليكون أول قائد أردني للجيش.
. 3- إنهاء خدمة العقيد (وليم هاتون) مدير دائرة الخدمات
4- إنهاء خدمة العقيد (باتريك كوجهل) رئيس دائرة الاستخبارات العسكرية.
وحول الدوافع التي حدت بالملك حسين لاتخاذ هذا القرار، يقول الحسين :" لقد كان السبب الرئيسي في عزل غلوب يقوم على عدم التفاهم بيننا، وعلى خلافنا حول مسألتين جوهريتين هما : دور الضباط العرب في جيشنا، واستراتيجيته الدفاعية، فأحد واجباتي كملك هو تحقيق الأمن لشعبي وبلادي، لو لم أقم باستبداله لما كنت قد مارست أعباء مسؤولياتي، إن ما تم كان من الواجب أن يتم ... لقد كنت وغلوب مختلفين تمام الاختلاف حول موضوع أساسي؛ فقد كنت أرغب في ترفيع الضباط الأردنيين إلى المناصب العليا في الجيش، وفي أن يتولى قيادته طبقا لخطة واقعية... وقد كان عليّ أن أعطي الأردنيين مزيدا من المسؤوليات، وكان وجود غلوب يقف عائقا أمامي دون تحقيق ذلك ... وقد أصبح غلوب أحد الرجال الأوسع سلطة في البلاد".
وفي رده على استيضاح السفير البريطاني في عمان حول الأسباب التي حملت الملك على اتخاذ مثل هذا القرار، أشار الملك حسين إلى الجهود التي بذلها للدفاع عن غلوب ضد الدعاية المصرية، ولكنه لم يظهر أي تعاون معه لتفادي مثل هذه الدعاية، لذا كان لابد من القيام بما هو ضروري لشرف الأردن وسلامته.
وفي حديث آخر عبر عن شعوره بقوله:" طالما بقي غلوب في القيادة بالأردن فإن كل حكومة أردنية سوف تستشيره أو تستشير السفارة البريطانية قبل ملكها عندما تواجه بقرار سياسي هام".
كما كان الملك حسين يشعر بالحرج لكون رئيس أركان جيشه أجنبيا، ويزعجه أن تذكر الدعايات في الخارج والداخل أن غلوب هو السيد المطلق، أو الحاكم الفعلي والدكتاتور في الأردن. كما كان غلوب يتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد وخاصة الانتخابات النيابية، وكان قانون الانتخاب يسمح للجيش بالاقتراع في ثكناته، مما جعل مصير المرشحين بين يدي غلوب، فكان يوعز الى الضباط بالاقتراع لمصلحة المرشحين الذين يختارهم، وكانت نتائج الاقتراع تصل اليه فيبلغها بدوره إلى الحكومة.
اتهمت بريطانيا عبد الناصر (1918 – 1970) أنه وراء هذه العملية. وكان (سلوين لويد) وزير الخارجية البريطاني قد وصل القاهرة في بداية آذار، ولم يكن لدى أحد علم بما كان يجري في نفس الوقت في عمان. وعندما علم بالقرار اعتقد لويد أن عبد الناصر كان يعلم بالقرار، وأنه رتب ذلك بحيث يتوافق مع يوم وجوده في القاهرة.
وكان عبد الناصر قد أخبر الوزير البريطاني في أول اجتماع لهما بأن أيام غلوب في الأردن باتت معدودة، الأمر الذي رجّح قناعته بأن عبد الناصر رتّب موعد الاستغناء عن غلوب بحيث يتوافق مع موعد زيارته للقاهرة، امعانا في إهانته وإهانة الحكومة البريطانية..
هاجمت الصحافة البريطانية عبد الناصر بشدة، وقام غلوب بدور في ذلك. وبينما شنت الصحافة المصرية حملتها على بريطانيا،أشادت بالملك حسين لعزله غلوب.
أثار قرار التعريب ردود فعل إيجابية على الصعيد الوطني؛ فقد شهدت البلاد مظاهرات طلابية اشتركت فيها الأحزاب السياسية في الأردن، وأخذت تهتف ضد حلف بغداد والاستعمار، أما الصحف الاردنية فقد تصدر صفحاتها في الأيام الثلاث التالية ليوم الاعفاء، وبعناوين بارزة أخبار الحدث، وقيام المظاهرات، ثم تعليقات وافتتاحيات تشيد بموقف الملك حسين، وتشكره على قراره التاريخي.
كما بدأ دور القوى والاحزاب الوطنية يتعاظم في الاردن، وتم الافراج عن المعتقلين السياسيين، وإيقاف محطة التشويش على إذاعة صوت العرب، والغاء قانون الاشراف على البدو؛ لان غلوب كان هو المشرف الحقيقي على قوات البادية.
وعلى المستوى العربي كانت ردود الفعل إيجابية وفورية، وخاصة في مصر وسوريا والسعودية، وزادت هذه الخطوة من التقارب العربي؛ فقد عقد عبد الناصر وشكري القوتلي والملك سعود مؤتمرا في القاهرة، صدر عنه بيان جاء فيه :" تم الاتفاق على التأييد الكامل للأردن ومساندته ضد اي ضغط أجنبي أو أي عدوان صهيوني، بما يكفل للشعب الاردني الباسل تحقيق غايته، وقد اتصل المؤتمر بحضرة صاحب الجلالة الملك حسين ملك المملكة الاردنية الهاشمية لإبلاغه بذلك، وتأييد ما سبق الإعراب عنه من الاستعداد التام الأكيد بمعاونة الاردن والوقوف بجانبه". وبهذه المناسبة نزجي تحية إجلال وإكبار لشهداء الوطن والأمة، والفخر والاعتزاز بقواتنا المسلحة درع الوطن وسياجه المتين..