"نابولي يا سلام".. كيف قفز حلم صغار الجنوب من الكالتشيو إلى دوري أبطال أوروبا؟

"نابولي، يا سلام، نابولي، انتهى الكلام"، ربما أصابك الملل من كثرة تكرار تلك العبارة، ومقطع الفيديو المتداول للمعلق الشهير فارس عوض، الذي يتغنى فيه بإبداع فريق سباليتي الذي تكرر كثيرا على مدار الموسم، ليتحول صغار الجنوب إلى أحد أفضل الفرق في أوروبا والعالم، وإلى مرشح فوق العادة لتجاوز أي خصم، بل والتفوق عليه كرويا قبل تجاوزه. (1)

 

 

التعليق الشهير لفارس عوض ذاع صيته بين جماهير الدوري الإيطالي، ثم امتد إلى عشاق الكرة عموما، قبل أن يجد فيه حتى غير المهتمين بكرة القدم لذة ومتعة استثنائية، وهكذا تماما كان نابولي هذا العام، حيث ظلت دائرة سحره تتسع حتى تجاوزت دائرة عشاق الكرة، ليتغنى الجميع بـ"نابولي، يا سلام" أسبوعيا، ودون ملل، انتظارا لفصل النهاية الذي من المفترض أن يكون ساحرا كتلك الفصول التي سبقته.

خطوات أولى

بداية موسم 2022 شهدت تولي لوتشيانو سباليتي تدريب نابولي، وهو خبر سعيد لمدينة تحب كرة القدم من الزاوية نفسها التي يحبها الرجل، ولكنه في الوقت نفسه فخ محتمل لأن يتحول الحلم إلى سخرية من الجميع بعد أن تنطفئ شعلة البدايات مع حلول أشهر الحسم؛ المصير الذي وصل إليه لوتشيانو في نهاية رحلاته السابقة في إيطاليا، ولمشجعي الكالتشيو خير دليل في تجربته مع إنتر، وقبلها ما حدث في روما خلال ولايتين، كان فيهما ذئاب العاصمة أقرب لغنيمة الألقاب من كل المحيطين، ولكنهم لم يصلوا إليها أبدا. (2)(3)(4)

 

الموسم الأول كان شبيها بما حدث في روما وإنتر؛ بداية إعجازية تتخطى 10 انتصارات تواليا، ثم تبدأ التعثرات ولحظات الشك، ثم تصحيح للمسار، ثم السقوط الحتمي مع بداية الدور الثاني، والبيات الشتوي الذي اعتاد عليه سباليتي بفقدان حظوظه كلها قبل أن يأتي مارس/آذار الحسم، لتتعالى صيحات الغضب في نابولي من جماهير تشتاق للفوز بقدر حبها لجمالية اللعبة. (5)

 

انتهى الموسم ونابولي في المركز الثالث، وظن الغالبية أن فقراء الجنوب في طريقهم إلى قصة جديدة يقدمون فيها رحلات ملهمة تنتهي بنهايات حزينة، فيجمعون شتاتهم ويواصلون رحلة استمتاعهم بكرة القدم في دور الضحية التي لا تفوز أبدا، ولكنها في كل مرة تقدم المتعة والسحر، ولا تتخطى حدود ذلك.

 

ولكن بعد أشهر قليلة، بات نابولي متصدرا للدوري الإيطالي بفارق يقارب العشرين نقطة عن أقرب ملاحقيه، يقدم كرة قدم استثنائية ويخطف أضواء العالم كله وليس إيطاليا فقط. استطاع لاعبوه وجماهيره والرجل الأصلع الذي يقود أحلامهم خلف الخطوط أن يؤمنوا بمشروعية طموح المنافسة على دوري أبطال أوروبا نفسه. بالطبع كل ذلك لا يحدث بين يوم وليلة، أليس كذلك؟

Soccer Football - Champions League - Group A - Napoli v Rangers - Stadio Diego Armando Maradona, Naples, Italy - October 26, 2022 Napoli coach Luciano Spalletti celebrates after the match REUTERS/Ciro De Luca
"لوتشيانو سباليتي" مدرب نابولي يحتفل مع الفريق بعد نهاية المباراة. (رويترز)

ميركاتو

تكتيكيا، يُعَدُّ لوتشيانو سباليتي أحد أهم المراجع في كرة القدم، ولتطبيق أسلوبه الجنوني الذي يتجاوز حدود استيعاب البعض أحيانا، يحتاج إلى بيئة عمل تستوعب ذلك الجنون؛ الأمر الذي منحه أريحية اللعب بفرانشيسكو توتي مهاجما وهميا في روما، في تجربة ألهمت كثيرين من بعده، وتشبه كثيرا ما قام به بيب غوارديولا مع ليونيل ميسي في برشلونة، وصنعا معا تلك النسخة الاستثنائية التي سجلت 91 هدفا وصنعت 37 هدفا في عام واحد، في رقم غير قابل للتكرار في كرة القدم. (6)(7)

 

تلك الخطوة احتاج قبلها غوارديولا إلى التخلص من الحرس القديم، حتى تستوعب مجموعته الأفكار التي يود تطبيقها، لذلك عانى مع صامويل إيتو ورونالدينيو وديكو في هذه النقطة، وكان التخلص منهم رغم نجوميتهم الفذة ضروريا لخلق المناخ الذي يحتاج إليه بيب ليبدع، ويحتاج إليه ليو لينفجر. في نابولي، كان لدى الأصلع التوسكاني فكرة مشابهة لتلك التي طبَّقها الأصلع الكتالوني، كما كانت فكرة بيب نفسها شبيهة لما فعله لوتشيانو مع توتي في روما قبلها.

 

هذه هي الملامح التي سار عليها ميركاتو نابولي الصيف الماضي، ولا أحد يدري هل كان سباليتي هو مَن أراد التخلص من الحرس القديم متمثلا في لورينزو إنسيني والهداف التاريخي درايس ميرتينز، وعمودي الدفاع والوسط خاليدو كوليبالي وفابيان رويز، وصناعة شكل مغاير بلاعبين أكثر طموحا وأصغر سِنًّا وأقل غرورا، وبالطبع أكثر قدرة على تطويعهم تكتيكيا من هؤلاء الذين يلعبون منذ أكثر من 10 سنوات بطريقتهم هم، بغض النظر عن اسم المدرب الواقف خارج الخطوط.

 

لذلك، كان الميركاتو نقطة تحول محورية للغاية بين نابولي الذي يحصد المركز الثالث بنهاية الموسم الماضي، وبين نابولي الحالي الذي يتجاوز طموحه الفوز بلقب الكالتشيو الذي بات في الجيب نظريا على الأقل، ويفكر في المنافسة على دوري أبطال أوروبا بمجموعة لاعبين تستطيع ذلك قياسا على قواعد كرة القدم، بـ11 لاعبا ضد 11 لاعبا، وقياسا أيضا على مستوى الحلم والطموح بأن ذلك ممكن. وكالعادة، السر في التفاصيل.

 

الحرس الجديد

Soccer Football - Serie A - U.S. Sassuolo v Napoli - Mapei Stadium - Citta del Tricolore, Reggio Emilia, Italy - February 17, 2023 Napoli's Kim Min-Jae and Victor Osimhen applauds fans after the match REUTERS/Jennifer Lorenzini
"كيم مين جاي" و"فيكتور أوسيمين" من نابولي يصفقان للجماهير بعد المباراة. (رويترز)

حين نغوص في التفاصيل أكثر، نجد أن مشكلة نابولي الهجومية تلخصت في كون الفريق متوقعا أكثر من اللازم، فبغض النظر عما يحدث خلال الخطوات الأولى من عملية بناء الهجمة، حين تصل إلى الثلث الأخير سيقوم ميرتينز وإنسيني بما يقومان به كل مرة؛ إما التمريرات القصيرة لخلق مساحة يدخل منها المهاجم منطقة الجزاء، وإما يحاول أحدهم إرسال الكرة من خارج المنطقة إلى أقصى الزاوية البعيدة، بتلك الطريقة التي تُعرف بـ"R2″ في لغة البلايستيشن، وهو ما يجعل الدفاع ضدهم أسهل بكثير. (8)

 

لذلك، راهنت إدارة نابولي على أسماء أقل بريقا، لن يصطدم بها سباليتي كما اصطدم بسلطة فرانشيسكو توتي في روما، أو شارة القائد على ذراع ماورو إيكاردي في إنتر، تلك الأسماء ستمنح الرجل ما يريده على مستوى الالتزام التكتيكي، وفي الوقت نفسه يمتلكون من الارتجالات الفردية ما يخدم المنظومة، بحلول مبتكرة وغير قابلة للتوقع كتلك التي امتلكها أسلافهم. (9)(10)

 

لذلك، جاء خفيتشا كفاراتسخيليا والمدافع الكوري مين جاي كيم، رفقة الظهير الأيسر ماتياس أوليفيرا، ودبابة الوسط فرانك أنغيسا، مقابل رحيل أعمدة الحرس القديم السابق ذكرها، وعدد من الأسماء الشابة، بأرقام عوّضت الفارق المادي، فحقق نابولي أرباحا مالية من ناحية، ورفع كفاءة الفريق من ناحية أخرى. (11)

 

إضافة إلى ذلك، أعاد سباليتي اكتشاف الأسماء الموجودة بالفعل، فيكتور أوسمين وزيلنسكي ولوبوتكا أصبحت لديهم أدوار محددة تكمل عمل المنظومة، لذلك تم تقديمهم بشكل مختلف وأكثر محورية عما كانوا عليه، وانتهت فجأة كل المعضلات التي واجهت المدرب الإيطالي في موسمه الأول، لذلك اختلفت النتائج في الموسم الثاني. تذكَّر، لا شيء يحدث بالمصادفة في مثل هذه القصص. (12)

 

السر في التفاصيل

EMPOLI, ITALY - FEBRUARY 25: Khvicha Kvaratskhelia of SSC Napoli in action during the Serie A match between Empoli FC and SSC Napoli at Stadio Carlo Castellani on February 25, 2023 in Empoli, Italy. (Photo by Gabriele Maltinti/Getty Images)
خفيتشا أفضل من إنسيني مراوغا، ولكنه إضافة إلى ذلك يهاجم المساحة دائما، يتحرك في ظهر المدافع ليستلم الكرة خلفه، ويجبر الخصم على تمديد الملعب طوليا أثناء حيازة فريقه للكرة. (غيتي)

بالنظر إلى تلك اللقطات التي تجاوزت شعبية نابولي نفسه، وانتشرت بين الجماهير بوصفها نموذجا لكرة قدم جميلة نحبها، تجد أن جمالية الصورة تزداد حين تبحث داخل تفاصيلها، وداخل التفاصيل ستجد أن هناك إبداعا إضافيا لدى خفيتشا إلى جانب مراوغاته الساحرة، ولدى لوبوتكا وزيلنسكي وأنغيسا مهارات سوى التسديدات والأهداف والتمريرات الحاسمة، سواء فيما يتعلق بتكوينهم ورؤيتهم للعبة، أو ما يتعلق بكرة القدم عموما، وفقا لمنظور سباليتي.

 

في تحليل لـ"The analyst"، يناقش سام ماك جاير كيف تحوّل نابولي من فريق متوقع إلى فريق يصنع الإبداع في الثلث الأخير، وبدا أن السبب في ذلك وفقا لتحليل مجموعة من اللقطات في الثلث الأول من الموسم يرجع إلى الاختلاف الجذري بين كفاراتسخيليا وإنسيني، حيث كان يُفضِّل الأخير دوما أن يهبط لاستلام الكرة واللعب خلفها، وتدويرها، ومحاولة البحث عن طريقته المفضلة في الإنهاء. أما خفيتشا، فهو أفضل من إنسيني مراوغا، ولكنه إضافة إلى ذلك يهاجم المساحة دائما، يتحرك في ظهر المدافع ليستلم الكرة خلفه، ويجبر الخصم على تمديد الملعب طوليا أثناء حيازة فريقه للكرة، مما يخلق حلولا متنوعة لدى حاملها من زملائه، فضلا عن الحلول المتنوعة التي لا تنتهي حين يلمس خفيتشا الكرة بقدميه الساحرتين. (13)

صورة توضح المساحة التي يصنعها خفيتشا كفاراتسخيليا بتحركاته بدون كرة، وكيف يهاجم المساحة ويتحرك في ظهر المدافعين. المصدر: (ذي أناليست)

هذه النقطة التي توضح الفارق بين خفيتشا وإنسيني هي ذاتها التي توضح الفارق بين أوسيمين الماضي وأوسيمين سباليتي، بين خط وسط يعتمد في إبداعه كليا على فابيان رويز الذي يُبقي الكرة تحت قدميه كثيرا، كونه محرّكها الأساسي، وبين ثلاثي وسط يتناوبون فيما بينهم على كل شيء، ويتميزون بلا مركزية تعطي وسط ملعب نابولي رشاقة وحركية دائمة بالكرة وبدونها، ليظهر لوبوتكا في حُلة جديدة، وتتعاظم أدوار زيلنسكي، ويصبح أنغيسا.. يا سلام!

 

هكذا أصبح نابولي أقوى هجوميا، وأكثر تنوعا ومتعة، وأكثر قدرة على استيعاب أفكار سباليتي المتحررة دوما، التي أثبتت على مدار مسيرته أنها تحتاج إلى لاعبين يمكنهم الاستغناء عن سطوة النجومية التي يمتلكونها، وعن الطريقة التي اعتادوا بها رؤية كرة القدم، مقابل اكتساب ما في عقل الرجل التوسكاني من جنون، ولنا في محمد صلاح خير مثال على نسخته قبل وبعد لوتشيانو سباليتي، سواء ما نراه نحن، أو باعترافه هو شخصيا بفضل ذلك الرجل عليه.

 

سر المدينة

"في يوفنتوس يبحثون عن الفوز دائما، ولكن في نابولي، مدينة مارادونا، هناك بحث عن جمالية كرة القدم، هذه هي الطريقة التي تحيا بها المدينة".

Soccer Football - Serie A - Napoli v U.S. Sassuolo - Stadio Diego Armando Maradona, Naples, Italy - October 29, 2022 General view of Napoli fans in the stands before the match REUTERS/Ciro De Luca
مشجعي نابولي في المدرجات يحملون علم عليه صورة مارادونا قبل المباراة. (رويترز)

بتلك الكلمات التي تُلخِّص كل شيء، عبَّر لوتشيانو سباليتي عن جوهر مدينة نابولي، وعن ذلك الجمهور الذي لم ينسَ في بحثه عن الفوز أن يبحث عن الجمال، وذلك الجنون الذي جعلهم يذهبون إلى قبور الموتى ويخبرونهم: "آه لو تعلمون ما فاتكم!"، لأنهم لم يشاهدوا سحر دييغو أرماندو مارادونا. وهنا، لا تعلم مَن وجد ضالته في الآخر بين نابولي وسباليتي، ومَن منهما أكثر حظا لأن طريقه تقاطع مع طريق الآخر، فامتزج السحر والجنون ببعضهما وأنتج تلك الصورة التي أبهرت العالم في موسم استثنائي بغض النظر عمّا سيحدث في نهايته. (14)(15)

 

واليوم، وبينما يبدو لقب الدوري الإيطالي محسوما بالنظر إلى فارق النقاط بين نابولي وملاحقيه، وبينما يبدو فريق الجنوب بالفعل أحد أقوى وأكمل فرق كرة القدم في أوروبا والعالم، ظهر حلم جديد قبل أن يتحقق حتى الحلم القديم، والمؤجل منذ أن لامسه شعب الجنوب مع مارادونا في 1990.

 

أوسيمين يراهن على إمكانية منافسة الفريق على دوري أبطال أوروبا، ويتحدث عن حلم دوري الأبطال الذي بدأ يداعب عقول هذا الجيل، وكفاراتسخيليا يقول إن كل ما يحدث مجرد بداية، ويَعِد بالمزيد، ووجوه اللاعبين تخبرك في كل مباراة عن أحلام تتجاوز ما وُضع في بداية الرحلة، لأن الرحلة ذاتها أخذتهم إلى أبعد مما تصوروا. (16)(17)

 

كل هذه المعطيات، بالإضافة إلى تراجع مستوى كبار أوروبا هذا الموسم، ومغادرة بعضهم للمسابقة أصلا على غرار برشلونة ويوفنتوس، تمنح نابولي أفضلية في المنافسة على لقب دوري الأبطال، ويجعل ذلك الحلم المستحيل نظريا ممكنا جدا، وفقا لقيمة الحلم التي تتجاوز تحقيقه، وإيمانا بضرورة الاستمتاع بالرحلة بغض النظر عن مشهدها النهائي، وتذكيرا بأن المجد للحالمين دوما، سواء حققوا أحلامهم أو توقفت خطواتهم عند المشهد الأخير.

  

المصدر:الجزيرة