مزيد من التقييم والتجويد لأداء رؤساء الجامعات في حين يزداد المنتج الجامعي رداءة وسوءا
منذ أسابيع، تنهمك جهات صناعة القرار في منظومة التعليم العالي الأردنية في عملية تقييم موسعة لأداء رؤساء الجامعات الحكومية، وحيث تقول وزارة التعليم العالي ان هذه العملية صارت جزءا روتينيا من مسار إدارة التعليم العالي في الأردن، ومن مسار حوكمته. وبات يحلو لمسئولي الوزارة القول؛ إن هذا التقييم يصب يقينا عند الانتهاء منه في تحسين المنتج الجامعي الأردني، وفي تجويد مخرجاته وحيث تفضي عمليات التقييم لرؤساء الجامعات إلى بقاء بعضهم أعضاء في نادي رؤساء الجامعات، كما ستفضي إلى إعفاء بعضهم وخروجه من عضوية هذا النادي، ما يمهد لدخول أعضاء جدد إلى هذا النادي.
وفي حين تبدو منظومة التعليم العالي منهكمة في جهد محموم من أجل تقييم عمل رؤساء الجامعات، وأدائهم، فإن خبر الشروع في عملية التقييم، كما تشكيل لجنة التقييم، لم يلق كبير اهتمام من قبل مجتمع الأكاديميا الأردني، ومن قبل شريحة العاملين في الجامعات الحكومية. واجزم، أن نمط المشاعر السائدة هو ما يشبه مشاعر اللامبالاة وعدم الاكتراث مضافا إليها ما يشبه مشاعر الإحباط والغضب من المآلات، والنهايات التي وصل إليها حال الجامعات في البلاد، برغم كل عمليات التقييم المتواترة والمتواصلة، التي درجت عليها منظومة التعليم العالي لرؤساء الجامعات الحكومية على مدى السنوات الأخيرة. وأجزم أن دراسة سريعة لو تم القيام بها، لبيّنت فارقا كبيرا في نوع الاستجابة والتفاعل الذي أظهره الأكاديميون بين أول عملية تقييم جرت لأداء رؤساء الجامعات جرت قبل سنوات طويلة، وبين عملية التقييم الحالية.
لقد بات خبر إنهماك منظومة التعليم العالي في عمليات التقييم لأداء رؤساء الجامعات لا يثير مطلقا اهتمام النخب التي حلمت كثيرا بالتغيير، وقد انتظرته طويلا دون أن يحصل، بل بات الاهتمام في عمل لجنة تقييم أداء رؤساء الجامعات يقتصر على قلة من العاملين، تنتظر مغادرة رئيسها من باب النكاية في شخصه، أو من قبل فئة ترى في التقييم فرصة لتحل مكان الرئيس الحالي لو تم إعفاؤه. وثمة فئة تتابع عمليات التقييم لعل التقييم يتمخض عنه إعفاء رئيس حالي، ليخلفه شخص من المعسكر المقرب بدلا من الرئيس الحالي الذي ينتمي لمعسكر مقابل، أو شلة منافسة. والحال، أن الجسم الأكاديمي بات على قناعة أن أي عمليات تقييم جديدة مع ما يستتبعها من قرارات إعفاء جديدة، لن تأتي بجديد واعد للجامعات التي ترهل حالها وساء كثيرا، كما أنها لن تغير من حقيقة أن المنتج الجامعي الأردني بات في أسوأ حالاته على الإطلاق، وأن ليس في الأفق ما يمنح الأمل بتغيير إيجابي في الوقائع كما يعيشها العاملون في الجامعات على الأرض. فالشعور الذي تراكم لدى العاملين في الجامعات، أن عمليات التقييم وما ينتج عنها من قرارات لا تفضي لأي تغيير ايجابي في أحوال جامعاتهم، وأن جل ما يتغير ينحصر في أسم الرئيس الذي يغادر، واسم الرئيس الذي يأتي.
وللتوضيح، فإن مشاعر اللامبالاة والإحباط لا ترتبط مطلقا -اقله من وجهة نظري بشخص أو شخوص رئيس لجنة التقييم أو أعضائها، فعلى المستوى الشخصي فإني لا أقيم مطلقا أي ربط بين شخص كل عضو من أعضاء اللجنة، وعمل هذه اللجنة وكفاءتها، والموقف منها. فإنا أعرف بعض أعضاء اللجنة، وأقسم أنني أحمل كل الاحترام لهم على المستوى الشخصي، ولكن الربط الذي أصنعه هنا، هو مع كامل المنظومة التي تقوم بعمليات التقييم، كما هو مع العناصر، والمعايير، والمؤشرات التي يتم تقييمها، أي أن مشاعر الإحباط التي باتت تطغى على المشهد لا تتعلق بشخوص أعضاء لجان التقييم، بل تتعلق بمجمل المنظومة التي تقوم بالتقييم، كما تتعلق بماهية ومحتوى الموضوع أو المساحات التي يتم تقييمها بهدف تجويدها.
فعمليات التقييم، كما يشير اسم اللجنة، وما سبقها من لجان، تشير إلى أنها تشمل الرئيس وينحصر نطاقها في عدد السنتمترات المربعة التي يشتمل عليها طول أداء الرئيس وعرضه، وهي تشمل تحديدا مساحات أداء الرئيس، ولا تشمل عملية التقييم المنتج الجامعي نفسه، وهي لا تشمل قطعا منتج الجامعة ذاتها التي يرأسها الرئيس. فالتقييم كما بات يشعر الكثيرون، هو للرئيس ولأدائه، وهو ليس لحال المؤسسة التي يديرها الرئيس. وهنا، ثمة فارق منهجي وموضوعي كبير جدا.
فثمة فرق بين أن تنهمك منظومة التعليم العالي، في تقييم أداء الجامعات، وصولا إلى تقييم المنتج النهائي لها؛ أي المنتج الجامعي الأردني معرفيا، وقيميا، ومهاراتيا، وبين انهماك المنظومة في تقييم رؤساء هذه الجامعات، كي نصل إلى وضع يتم فيه الإبقاء على بعضهم، وإزاحة بعضهم الآخر، في عملية بات معظم العاملين في الجامعات يرون فيها مجرد مشاهد طقوسية تود أن تعطي طابعا وشكلا مؤسساتيا، لقرارات هي في الجوهر تعكس صراعا واشتباكا لمراكز قوى، ولمتنفذين، وحيث يخاض الصراع باسم المؤسساتية، وبهدف خدمة المؤسسة، وعلى قاعدة أن محورها هو السياسات Policies، ولا شيء غير السياسات، في حين بات الكثيرون يشعرون أن ما يهيمن على المشهد الجامعي، وعلى إدارته، كما على كل الفضاءات التي تنتمي للدولة، هو السياسيات Politics وليس السياسات Policies. فالسياسيات هي ما يحرك، ومن أجلها تخاض المعارك وتشكل اللجان، في حين أن ما يتم الحديث عنه في الظاهر وفي العلن هو السياسات.
في علوم السياسة، وأنثروبولوجيا السياسة ثمة تمييز دقيق بين السياسة حين تشتمل على وضع الخطط والإجراءات والقوانين التي يبتدعها العقل المؤسسي بعيدا عن الأهواء، والمصالح، والأنوات الضيقة، من أجل إدارة قطاع أو فضاء اقتصادي او سياسي أو تعليمي ما، وبما يحقق الصالح العام، أو صالح الدولة والمجتمع، وهو ما يسمي بالسياسات Policies ، وبين السياسة التي تشتمل على رغبة الإنسان الفرد باعتباره فاعلا سياسيا يسعى لتحقيق مصالحه كفرد من خلال التنافس أو الصراع، سواء كانت مصالح مادية أو معنوية، وهنا يتم تطوير تكتيكات وممارسات وسلوكيات من قبل الفرد أو الفاعل السياسي يكون الهدف منها هو مصالحه كفرد، وكفاعل فرد. وعليه، فإن السياسات تنتمي لما هو اجتماعي ومؤسسي راق فينا، في حين أن السياسيات تنتمي لما هو فردي وأناني قبيح فينا. في عالمنا العربي يكثر الحديث عن السياسات في الاجتماعات المفتوحة وعلى شاشات التلفزة، في حين أن ما يجري على الأرض من وقائع, ينتمي بالمطلق إلى عالم السياسيات.
وعليه فان الشعور العارم لدى العاملين في الجامعات، هو أنه لم يسبق أن تمخض عن سلسلة قرارات الإعفاء التي صدرت عن لجان التقييم، أي معالجة لتبعات القرارات أو الإجراءات التي قام بها الرئيس واستدعت إعفاءه. ففي واحدة من الجامعات التي سجلت رقما قياسيا في قرارات الإعفاء للرئيس ونواب الرئيس، لم يجر أي تغيير في الأوضاع المختلة التي جرى الإعفاء بسببها، كم لم يجر أي تغيير في أطقم الإدارة التي وصلت لموقعها بوسائل يجري الحديث علنا عن عدم قانونيتها بل وعن عفنها، وبقي مجتمع الجامعة يرقب عمليات قدوم رئيس جديد، ثم إعفائه، ليخلفه رئيس ثان، ثم ثالث، فرابع، فخامس في حين بقيت تركة الرئيس الأول المعفى هي عينها؛ القرارات العفنة ذاتها بقيت، وأطقم الإدارة التي وصلت بالدوس على قوانين التعليم العالي بقيت. يعاقب الرؤساء على أفعالهم، ولكن أفعالهم التي عوقبوا عليها، تبقى وتدوم، بل ويتم تعزيزها.
وفي عمليات التقييم لأداء رؤساء الجامعات، تغفل عمليات التقييم عن تقييم الكيفية التي يصل بها ما يصل الى ثلث أعضاء مجلس العمداء في إحدى الجامعات، وقد خضع كل واحد منهم لأكثر من لجنة تحقيق، وحصل على عقوبة أو أكثر يتعلق بعضها بسرقات علمية، وبعضها بعمليات عنف ضد زملاء لهم داخل الحرم الجامعي. كما تغفل هذه المنظومة عن تقييم الأثر الكارثي الذي يتركه تعيين شخص لموقع عميد سجلت بحقه إنذارات أكاديمية لسرقة علمية، على مجمل المنتج الأكاديمي في هذه الكلية. فأنى لمن سجل بحقه إنذار أكاديمي بسبب سرقة علمية، أن يطبق القانون الذي يمنع السرقات العلمية؟ وكيف لمن سجلت بحقه عقوبة لسرقة علمية يعرف عنها كل مجتمع العاملين في الجامعة أن يملك السلطة الأخلاقية والروحية كي يضبط ويردع السرقات العلمية لدى الطلبة والأساتذة في كليته وهو كان الرائد على صعيد السرقات العلمية؟؟
وفي عمليات التقييم لأداء رؤساء الجامعات، لا تنظر لجان التقييم في حجم الضرر الذي أصاب كلية تشتمل على ما يزيد على أكثر من 140 أستاذا تخرج جلهم من جامعات مصنفة ضمن أفضل الجامعات العالمية، وحصل العشرات منهم على رتبة الأستاذية عن جدارة، فيتم الإتيان بمن هو ضمن الأقل رتبة، والأحدث تخرجا، والأقل خبرة على صعيد التدريس والخبرة البحثية، نتيجة الدوس على قانون التعليم العالي الذي يشترط رتبة الأستاذية فيمن يتولى رتبة رئيس قسم، ناهيك عن عميد كلية، فهل تنظر لجان التقييم في مستوى السلبية ورفض المشاركة والرغبة في الانسحاب من المشاركة من قبل أفضل العقول في هذه الكلية في كل ما يتعلق بتطوير الكلية والجامعة جراء صفعهم في وجوههم نتيجة التسمية في موقع العميد لمن لا يجيز قانون التعليم العالي تسميته عميدا؟
وهل ستصل لجان التقييم إلى الربط بين اختيار من لا يجيز القانون له تولي عمادة الكلية، وبين سلسلة طويلة من الممارسات الغير قانونية على صعيد احتكار اسم واحد أو اسمين لرئاسة لجان الترقية في كلية مفتاحية برغم وجود العشرات ممن يمكن لهم، ويتوجب عليهم أن ينظروا في ملفات الترقية؟ وهل يمكن للجان التقييم أن تنظر في العلاقة بين الكيفية غير القانونية لوصول أحدهم إلى عمادة كلية مفتاحية وانخراط العميد وفريق الإدارة العامل مع العميد في مستوى غير مسبوق من الانتحال العلمي، والسرقات العلمية وعمليات الاستلال غير المشروعة التي باتت تمارس في هذه الكلية ودون خوف أو وجل من أعين أي جهات رقابية سواء كانت مجلسا للأمناء، أو مجلسا للتعليم العالي، أو حتى من سلطات قضائية؟؟ وفي عمليات التقييم التي تقوم بها اللجان المشكلة، لا يتم النظر مثلا في تقييم حجم الضرر الذي مس إحدى الجامعات، ومس المنتج الجامعي كله، نتيجة قضية دس مواد مخدرة في سيارة أحد مسئولي جامعة ما، مع ما تبعها من قيام شبكة تلفزيون هي ضمن الأكثر مشاهدة، لبث تقرير حول هذه الجامعة وما حدث فيها من قضية دس مواد مخدرة بهدف إيذاء الغير؟
وفي المحصلة، فإن من مفارقات عمل لجان التقييم التي تقيم رؤساء الجامعات والتي تشكل العديد منها بصورة متلاحقة على مدى السنوات الأخيرة، ان هذه اللجان وبالقدر الذي تنهمك فيه في عمليات التقييم المحمومة لأداء رؤساء الجامعات، فإن الحال في هذه الجامعات ينتقل في معظمها على الدوام من سيء إلى أسوأ، ومع كل رئيس يأتي ليخلف رئيس معفى، تسمع عبارات الترحم على الزمن الذي انقضى مع الرئيس الذي غادر، في مقابل الحال الذي صار أسوأ مع الرئيس الذي وصل، وكل هذا وفق توصيات عمل لجان التقييم. ومن مفارقات حال الجامعات والتعليم العالي في هذه البلاد ان هناك علاقة طردية بين كثرة عمل اللجان التي تنشأ بهدف التقييم سواء على صعيد مجالس الأمناء أو على صعيد لجان التقييم لأداء الرؤساء، وعلى صعيد لجان تجويد المنتج الجامعي، والتدهور المستمر في جودة هذا المنتج.
عمليات التقييم والتجويد التي تقوم بها المنظومة بكافة مستوياتها البيروقراطية، تنظر في الورق الموجود على طاولاتها والتي قدمها المستوى البيرقراطي الأدنى. وبالاستناد إلى ما هو موجود في الورق يجري التقييم ويجري الحديث عن التجويد، وأما ما يجري في الجامعات من وقائع ومن تفاصيل ومن مسارات مهلكة، فهي لا تخضع للتقييم. منذ سنين والمنتج الجامعي الأردني يسير من سيء إلى أسوأ، وفي كل يوم ينخفض مستوى الاعتراف الإقليمي بالتعليم العالي في البلاد. ولم نعد نسمع الإشادة بالمنتج الجامعي الأردني، إلا من قبل صانعي القرار وهم يجلسون على مقاعدهم، وهم سرعان ما يقولون ما يغاير كل كلامهم عن جودة هذا المنتج حين يغادرون مواقع الإدارة .
وفي النهاية، سوف أنهي هذه المقالة عن عمل مجالس التقييم، ولجان التجويد، والتحسين، وتقييم الأداء، بتلك النكتة التي تنتمي لعالم الطب والمستشفيات، وحيث تقول النكتة أن طبيبا خرج من غرفة العمليات الجراحية التي كانت تكتظ بأهل المريض الذين كانوا في غاية القلق والتوتر وهم ينتظرون مصير أبنهم في غرفة العمليات، ليخرج الطبيب عليهم ليطمئنهم وينقل البشرى لهم، بان : العملية الجراحية والحمدلله قد نجحت نجاحا باهرا، وأن أبنهم وبرغم نجاج العملية الجراحية الباهر، قد توفاه الله للأسف. عمليات تقييم رؤساء الجامعات هي والحمد لله ناجحة، ولكن المنتج الجامعي وللأسف يستحيل حاله كل يوم من سيء إلى أسوأ.