"لا تنتقد خجلي الشديد"!
..لدي صديق سبعيني في قريتنا مليح، يقابل الدنيا بابتسامة تملأ وجهه في مختلف الظروف. كان عاشقا نقّل فؤاده بين بعض الحسناوات اللواتي بادلنه المشاعر ذاتها . ما يزال الرجل صاحب اذن يأسرها الطرب الرفيع . هنا، تتربع نجاة الصغيرة على عرش الاختيار .
ذات مساء ليس ببعيد، احتسينا القهوة سريعا، فآثر لضيق الوقت أن ُيسمعني اغنية نجاة الصغيرة "لا تنتقد خجلي الشديد". ساد صمت في حضرة الصوت الرخيم والمعنى العميق. ذرف الرجل دمعا وذهب باحثا عن عدد قديم من صحيفة، كنت كتبت فيها ذات عام عن اغنيتنا تلك . أخذ يقرأ تلك الخاطرة، فيتوقف عند كل جملة فيقول: اقسم انك استوحيتني واستحضرتني لتكتب كل هذا الوجع، فلا احد يعرف زلازلي سواك. كيف تكتبني فتسترسل في تعذيبي وتظل تتساءل كما نجاة "من اين تأتي بالفصاحة كلها؟! نعم، يفيض منها وجد، هو بوح الروح الباذخ، وبلا مِنّة يحيل القلب إلى عوالم تشع رونقاً، وتترك فيه رغبة في ترديد "أحبك" بلا كلل، مدفوعا بغرام متوهج ومتغلغل حد استمرارية الخلود.
تتبدى فيها ملامح الحبيب وتتجرد ذاكرة الوجد، المفضي إلى جسر نصب بين هاويتين.
فيها ظل طويل آخذٌ في التلاشي، خشية فقد يتطاول مثل لذة يهزها الألم أو يهزمها.
أحبك، هي عتبة الدخول، وتأتأة بدايات الهجس قبل أن يصير أشواطا وأرقا، وفيها بصمة لم تكتمل للرغبات والشهوات قبل انفلاتها.
فيها ولع يتوهج في لحظة التوتر، قبل أن يدفع بمقذوفه الروحي او اعادة تأويل اللحظة تحت سطوة قهر عنيف الايقاع، وهي كما سؤال يجوس في الإمكانية والمتاح على الرغم من مراوغة تتبختر في الارجاء.
فيها جليدية الحبيب ونزقه، على الرغم من استحواذه على شمس القلب وإدراكه أنه حاجة قصوى، وأنه ربان القلب ومدينة الحب التي لا تعرف الصقيع. فيها استسلام للنزق الحبيب الذي عادة ما تظهر بواكيره، وهي لم تغادر بعد لحظة تشكل التساؤل الاول عن المرايا في نسيانها المبيت للغائبين.
فيها دهشة فتاة تهب حبيبها رحيق حياتها، وهي التي تتقن استيلاد ذاكرة الأمس، رغم ضمور القدرة على الحب. وفيها ثورة الشك في قلب مترع بوجع تؤصله مكامن الإغواء، ولكنه كل يوم يكتشف في خلواته أنها تجهز على متبقيات روحه بانكسارات تراكم فيه لذة العبودية لامرأة فيها الاستبداد كله.
قال عاشق في مسعى لتبديد شكوكه وخيباته، ان حبيبته ربما تكون امرأة ولدت في يوم ملعون، فصارت أيامه كلها مغمورة بلعنات شك يكبل حياته بفعل قوانين تسخرها الاسر للتلقين والامتثال، اللذين يقاتل ليتحرر من هيمنتهما المقيمة على الروح.
أضاف أن حبها كان وكأنه اشتعال لحواس مؤجلة، تنتظر الانفلات من دروس اضافية تلقنتها في الحب عند الجارات، وهن يستدعين ذاكرة عشق كانت البيادر ومواسم الحصاد واحاته ومبتداه.
فيها غموض الرعشة قبل ولادتها ووقوف على انكسار تثيره الأسئلة الوجودية، واضطراب علاقة الحب واخفاقه في إضفاء سعادة على وجه الحياة الكالح.
حين يخفق الحب يصبح العشاق خصوما غير مكافئين للحياة التي تبقيهم في شرنقة الحزن طويلا!