عن ضرب مصداقيّة الهيئة المستقلة للإنتخاب!
رُغم تحفظّات الكثيرين في الأوساط السياسية على مسار العمل السياسي وبرامج الإصلاح والتحديث السياسي إلا أنّ إنشاء الهيئة المستقلة للانتخاب بموجب تعديل الدستور عام 2011 كان من أبرز الايجابيات في مسيرة الإصلاح السياسي حتى وإن كان إنشاء هذه الهيئة المستقلة بتوصية ودعم من مؤسسات الاتحاد الأوروبي ثم كان من الايجابيات في عام 2022 تعديل قانون هذه الهيئة ليعطي الهيئة إختصاص متابعة شؤون الاحزاب السياسية وترخيصها بعد أن كانت هذه المهمة لوزارة الشؤون السياسية والبرلمانية ولجنة الأحزاب فيها.
ومما لا شك فيه أن عدّة انتخابات برلمانية وبلدية تم اجراؤها تحت اشراف الهيئة المستقلة وكان أداؤها فنياً وحيادياً مقبولاً إلى حدٍّ كبير ويتطوّر مع مرور الوقت والتجربة وكانت الهيئة أحد عوامل عدم وقوع انهيار كامل للثقة بالمؤسسات الحكومية في ظل التراجع الكبير في مستوى الحريات والحقوق السياسية والسطوة الأمنية على الحياة السياسية في الأردن.
إن مهمّة الهيئة المستقلة للانتخاب المتمثلة بملف الإشراف الكامل على الانتخابات العامة هي أهم وأخطر المهام في الحياة السياسية ذلك لأنها تتعلق بإبراز الإرادة السياسية للشعب الأردني واختيار ممثليهم وتطلعاتهم للمستقبل من أجل إصلاح الأوضاع المترديّة سياسياً واقتصادياً ومعيشياً، ولهذا فإن مصداقية وحيادية الهيئة المستقلة للانتخاب ودقّة إجراءاتها فنياً والتزامها بالتشريعات ليست ترفاً سياسياً أو منّةً أو خياراً من مجلس مفوضيها، بل هو واجبٌ مُقدّس يجب أن يستشعروا قيمته وأهميته وخطورته وقبل ذلك يجب أن يكونوا على درجة عالية من الكفاءة والجدارة والنزاهة لأن مصداقية الهيئة كمؤسسة دستورية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى كفاءة ونزاهة واستقلال مجلس مفوضيها.
إن أهم معايير الكفاءة والجدارة التي يجب أن تتوافر فيمن يديرون الهيئة هو الفهم الصحيح لنصوص القوانين التي يتعاملون بها والالتزام بحيادية وتجرّد في تطبيقها والامتثال لمقتضياتها دون التأثّر بنوازع داخلية لديهم أو تأثيرات خارجية من قبل السلطة وتوجهاتها السياسية والأمنية، حيثُ أن أيّ انحراف مقصود أو غير مقصود في عمل الهيئة وأدائها القانوني والفنّي سيكون له أثر سلبي بالغ الخطورة على مصداقية كل المؤسسات السياسية الدستورية في الدولة وعلى مستويات الثقة الشعبية الضعيفة في برنامج الاصلاح السياسي والاقتصادي المنشود.
ومن هنا فانه لا يُغتفر للهيئة المستقلة للانتخاب ومجلس مفوضيها الانحراف البيّن عن مقتضيات النصوص والأحكام القانونية واضحة الدلالة والمعاني والفهم إلى اجتهادات وتفسيرات واهية للنصوص ليس لها أي مستند أو حُجّة أمام وضوح النصّ القانوني حتى لدى أقل النّاس فهماً وإدراكاً للغة العربية وللثقافة القانونية.
إن قرار مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب باعتبار ثمانية عشر حزبا أحزاباً مُنحلّةً بناءً على عبارة (وبخلاف ذلك يتم حلّ الحزب وفقا لأحكام هذا القانون) الواردة في نهاية الفقرة (ب) من المادة (40) من قانون الأحزاب التي طلبت من الاحزاب السياسية القائمة توفيق أوضاعها وفقًا لأحكام الفقرة (أ) من المادة (11) منه خلال سنة واحدة من تاريخ نفاذه وذلك بعقد مؤتمر عام تتوافر فيه شروط المؤتمر التأسيسي الواردة فيها، هو قرار إداري صادر عن جهة غير ذات اختصاص في إصداره وأن العبارة المذكورة لا تُنشئ بأي حالٍ من الأحوال لمجلس المفوضين اختصاصاً لاتخاذ مثل هذا القرار الخطير لعدة أسباب أوردها باختصار:
1.إن العبارة المذكورة لا تعني مطلقاً حلّ الحزب حُكماً بمجرد عدم تحقق الشرط الوارد في الفقرة (ب) خلال المدة المحددة لان هذه العبارة لا تتحدث بصيغة المضارع المبني للمجهول التي تفيد التحقّق والوقوع بمجرد عدم تحقق الشرط، وهذا معلومٌ في اللغة وفي الصياغة القانونية للنصوص، ولو أراد المشرّع القانوني تحقيق الأثر القانوني واحداث مركز قانوني بمجرد عدم تحقق الشرط فهو يستخدم الفعل المضارع المبني للمجهول للدلالة على الأثر الفوري مثل (يُعتبر الحزب منحلّاً) وقد استخدم ذات القانون هذه العبارة في موضع آخر لاحداث الأثر القانوني بمجرد تحقق الشرط في الفقرة (د) من المادة (32) التي تحدّثت عن اندماج الأحزاب بالقول: (ويُعتبر كل حزب اندمج في حزب قائم أو في حزب جديد مُنحلًّا حكمًا)، ولا شكّ أن استخدام كلمة (حُكماً) هنا هي لتأكيد وقوع الأثر القانوني الفوري أي حكماً بقوة القانون ذاته وليس بأي إجراء لاحق يكشف عن تحقق الأثر القانوني.
2.أن العبارة تتحدّث عن حلّ الحزب وفقاً لأحكام القانون أيّ أن حلّ الحزب يكون مشروطاً بتحقق ضوابط وقيود باقي نصوص القانون، ولو رجعنا لباقي هذه النصوص التي تتحدّث عن حلّ الحزب لوجدنا أن المادة (35/أ) من القانون تؤكّد أنّ أنه (لا يجوز حل الحزب إلا وفقًا لأحكام نظامه الأساسي أو بقرار قضائي قطعي وفقًا لأحكام هذا القانون)، والفقرة (ب) حددت المحكمة المختصة بحل الحزب حصراً بمحكمة البداية للنظر في دعوى حلّ الحزب التي يقيمها المجلس في أيٍّ من الحالات التالية:-
1-إذا خالف الحزب أحكام أيٍّ من الفقرتين (2) و(3) من المادة (16) من الدستور.
2- إذا ثبت في دعوى جزائية ارتباط الحزب ارتباطاً تنظيمياً بجهة خارجية.
3- إذا قبل الحزب تمويلًا من أي جهة أو شخص خلافا لأحكام هذا القانون.
4- إذا خالف الحزب أيًّا من أحكام هذا القانون ولم يقم بتصويب المخالفة وفقًا لأحكام المادة (33) من هذا القانون.
وبالتالي فإن مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب إذا رأى أن أي حزب قائم لم يقم بتوفيق أوضاعه وفق المادة (40) من القانون وأن هذه المخالفة تستوجب الحلّ فليس له إلا اللجوء إلى البند (4) من الفقرة (ب) من المادة (35)، ولا يستطيع مجلس المفوضين وفق هذه الفقرة اللجوء لمحكمة البداية لطلب حل الحزب إلا بتفعيل المادة (33) الواردة صراحة في متن هذه الفقرة، والتي نصّت على أنه: (إذا خالف الحزب أيًّا من أحكام هذا القانون، فعلى المجلس أن يوجّه له إخطارًا بوجوب تصويب المخالفة خلال ستين يومًا من تاريخ الإخطار، وعلى المجلس تمديد هذه المدة ثلاثين يومًا أخرى إذا قدّم الحزب أسبابًا تُبيّن تعذُّر تصويب المخالفة خلال المدة الأولى) ومجلس المفوضين لم يقم بأيٍّ من هذه الإجراءات ولم يوجّه الإخطارات اللازمة لأيٍ من هذه الأحزاب لتصويب المخالفات على فرض وجودها.
ومن خلال ما تقدّم نرى بوضوح تام أن الهيئة المستقلة للإنتخاب تعامت عن هذه النصوص الواردة في المواد (33و35) من قانون الأحزاب السياسية وقفزت عن جهل أو تعمّد -فالأمر في الفداحة سيّان- إلى أحضان خطيئة قانونية جسيمة وفادحة وجعلت لنفسها إختصاصاً هو حصراً لسلطة القضاء النظامي دون سند أو مسوّغ قانوني وأصدرت قراراتٍ بحلّ ثمانية عشر حزباً سياسياً بقرارات إدارية هي في القانون الإداري وفقه القضاء الإداري قرارات باطلة ومُنعّدمة وليست مجرّد قرارات مَعيبة، وقد استقر الفقة الإداري والقضاء الإداري وأحكام القضاء الإداري في الأردن ومصر وفرنسا على أن عيب عدم الاختصاص الذي يشوب القرار الإداري هو من العيوب المتعلقة بالنظام العام وللمحكمة التصدّي له حتى لو لم يتطّرّق له فُرقاء الدعوى الإدارية وأن هذا العيب من الجسامة أنّه ينحدِرُ بالقرار الإداري لدرجة الإنعدام ولا يترتب عليه أيُّ أثر.
إن الخطيئة الجسيمة والخطأ القانوني الفادح الذي أرتكبه مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب قد أصاب مصداقية وحيادية الهيئة في مقتل وإذا لم يتدارك جلالة الملك راعي المؤسسات الدستورية هذا الأمر فوراً لسحب وإلغاء هذه القرارات الشنيعة قانونياً وسياسياً وإقالة مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب المسؤولين عن هذه الخطيئة الكبرى فإنه سيكون لهذا الأمر إنعكاسات خطيرة على مصداقية الاصلاح السياسي وتحديث منظومة العمل السياسي والحياة السياسية في الأردن بشكل عام، فالقانون وسلامة وحيادية تطبيقة هو الطريق للاصلاح المنشود وفقدان المواطن الثّقة بمؤسساته الدستورية قد يجرّنا إلى الهاوية.