القائد القوي في زمن الاضطراب.. لماذا يدعم معظم القوميين الأتراك أردوغان؟

يقترب رجب طيب أردوغان من الفوز بفترة رئاسية جديدة في تركيا وفق أغلب التوقعات، إذ حصد نسبة قلت قليلا عن عتبة الـ50% اللازمة للفوز المباشر في الجولة الأولى من الانتخابات التي أجريت في 14 مايو/أيار الحالي، وقد فاز حزبه "العدالة والتنمية" وحلفاؤه بالأغلبية البرلمانية، في حين حصل منافسه "كمال كليجدار أوغلو"، رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني، على 44.9% من الأصوات، بينما حصل "سِنان أوغان" القومي المتشدد على 5.17% من الأصوات.

بعد النتيجة الإيجابية له في الجولة الأولى من الانتخابات، لم يسع أردوغان إلى أي تغيير كبير في خطابه أو خريطة تحالفاته، لكنه استطاع أن يحصل على تأييد سِنان أوغان، المرشح الرئاسي السابق لتحالف "الأجداد"، إذ رأى المرشح القومي في أردوغان الرجل الأقدر على التعامل بالحسم اللازم مع بعض الملفات التي تشكل تحديا وطنيا وعلى رأسها ملف الجماعات الانفصالية الكردية، في حين تمكن كليجدار أوغلو من الحصول على تأييد "أوميت أوزداغ"، رئيس حزب النصر اليميني القومي، الذي شكّل تحالف "الأجداد" من الأساس، إذ رأى أوزداغ في كليجدار أوغلو الرجل المناسب للتعامل مع مسألة "ترحيل اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من السوريين والأفغان"، حتى لا تتحول البلاد إلى "لاجئستان" بحسب تعبيره، وكذلك أعلن حزب العدالة من تحالف الأجداد تأييده لكليجدار أوغلو.


غالبا ما يظهر قدر من الارتباك حين نستخدم مصطلحات تقليدية، مثل اليمين واليسار، لوصف المتنافسين السياسيِّين في تركيا. فعلى سبيل المثال، نجد أن مرشح "اليسار" المُفترض كليجدار أوغلو هو الذي يعطي الأولوية في برنامجه الانتخابي للتعامل الخشن مع ملف الهجرة واللاجئين، ويمتلئ خطابه بالعنصرية ومعاداة المهاجرين، في حين أن مرشح "اليمين" أردوغان هو من يتبنى موقفا مدافعا عن اللاجئين. ويبدو هذا مشهدا مخالفا تماما لصورة التنافس التقليدية بين اليمين واليسار في الغرب، إذ يكون المرشح اليساري عادة الأكثر ترحيبا ومراعاة للاجئين والمهاجرين، وهو ما يشي بدرجة التعقيد في المشهد الانتخابي التركي.

لا يقف التعقيد عند هذا الحد، فعلى الرغم من أن مرشح اليسار هو من يحمل لواء مناهضة المهاجرين في السنوات السابقة، فإن معظم القوميين الأتراك "المتحسسين بطبعهم تجاه المهاجرين" في النهاية يؤيدون أردوغان، وعلى رأسهم الحزب القومي الأقدم والأهم في البلاد حزب الحركة القومية بقيادة "دولت بهتشلي"، الذي دخل في تحالف مع حزب العدالة والتنمية منذ عام 2015، والذي حصل على 5 ملايين و480 ألف صوت، منتزعا أكثر من 10% من كتلة الأصوات و50 من مقاعد البرلمان ضمن تحالف الشعب مع الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة.


بالإضافة إلى ذلك، انحاز القومي المتشدد سنان أوغان المنشق عن الحركة القومية لأردوغان في جولة الإعادة في نهاية المطاف. صحيح أن حزب النصر، أبرز أعضاء تحالف الأجداد الداعم لأوغان، أعلن سيره في طريق مختلف ودعم كليجدار أوغلو، لكنه ليس حزبا بحجم الحركة القومية، فقد حصل على مليون و590 ألف صوت فقط في الانتخابات البرلمانية ولم ينجح في دخول البرلمان، بينما حصل سنان أوغان في الانتخابات الرئاسية على حوالي مليونين و800 ألف صوت.

لا يعني ما سبق أنه يمكن توقع أين ستذهب أصوات من انتخبوا سنان أوغان بسهولة، إذ يبدو أن هذه الكتلة الانتخابية لديها تحفظات على أردوغان وكليجدار أوغلو كليهما، لكن نظرة على الوضع العام تكشف عن جاذبية أردوغان صاحب الخلفية الإسلامية للكثير من القوميين. وقد كشفت الانتخابات الحالية كيف أصبح لدى التيار القومي في تركيا مكانة كبيرة في الشارع، وهو ما يتضح من إصرار حزب العدالة والتنمية على حماية تحالفه معهم، بل ويتضح أيضا من حرص حزب الشعب الجمهوري المعارض على التحالف مع المنشقين عن الحركة القومية، وأبرزهم "ميرال أكشنار"، رئيسة حزب "الجيد"، الذي حصل على 9.7% من الأصوات و43 مقعدا في البرلمان.

كلمة السر
 

"سيد كمال، ما هو وجه الاختلاف بينك وبين هؤلاء الإرهابيين؟ إنهم يدعمونك، لا يمكنك أن تنهض وتقول لهم لستُ بحاجة إلى دعمكم"
(رجب طيب أردوغان)

بحسب العديد من التقديرات، فإن اتهامات أردوغان للمعارضة بأنها مدعومة من الجماعات الانفصالية الكردية يلقى قبولا شعبيا، ويجعل هذه المسألة تفوق في أهميتها المخاوف الاقتصادية عند الناخبين. وبحسب "محمد علي كولات"، رئيس شركة "إم إيه كيه" لاستطلاعات الرأي، فإن "الكثير من الناخبين يرون أن المعارضة تفتقر للشدة المطلوبة لمواجهة الإرهاب". وجدير بالذكر أن الكثير من القوميين لم يصوتوا لتحالف الأمة المعارض بقيادة كليجدار أوغلو بسبب الدعم الضمني الذي منحه إياه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وهي نفس ملاحظة أوغان التي جعلته يميل إلى أردوغان ويعلن دعمه له، إذ لا يستطيع كليجدار أوغلو أن يرضي القوميين بسبب تحالفه مع بعض الأحزاب الكردية التي تتبنى توجها انفصاليا تسببت في زيادة حصته من الأصوات في الجنوب الشرقي، ومن ثَمّ لم يجد الرجل أمامه سوى تصعيد الخطاب فيما يخص اللاجئين والمهاجرين كي يكسب أي أصوات قومية ممكنة.

كان قادة حزب الشعوب، المتحالف ضمنيا مع كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية، قد تحدثوا قبل الانتخابات عن إمكانية الإفراج عن "عبد الله أوجلان"، زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يواجه السجن منذ عقود، فضلا عن حديثهم حول إمكانية إقامة حكم محلي للمناطق ذات الغالبية السكانية الكردية. وقد أسهم كل ذلك في إثناء الكثير من القوميين عن الالتفاف حول كليجدار أوغلو، إذ كسر أوغلو في نظرهم العديد من التابوهات في السياسة التركية بتحالفه مع أحزاب تتبنى توجها انفصاليا، وإن كان قد حصد الكثير من الأصوات الكردية في المقابل.

من جهة أخرى، يبدو الرئيس أردوغان أكثر جاذبية للقوميين فيما يخص التعامل مع ملف الجماعات المسلحة والفصائل الانفصالية الكردية، ففي بداية حكمه انحاز إلى التعامل السياسي مع هذه الأحزاب والجماعات، لكن بعد حصول الكثير من المتغيرات بسبب الوضع في شمال سوريا، وتنامي نفوذ حزب العمال الكردستاني داخل ما يُعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية"، وتزايد تحفُّظ عدد من المؤسسات العسكرية والأمنية التركية على عملية السلام مع حزب العمال (التي توقفت بالفعل عام 2015)؛ برزت حاجة أردوغان إلى التحالف مع القوميين، وعاد أردوغان من جديد إلى الطريق نفسه الذي سارت عليه الدولة التركية من قبله بانتهاج الحلول العسكرية في مواجهة اشتداد المحاولات الانفصالية الكردية.


أردوغان نصير القومية

خلق أردوغان جسورا تصل بين المحافظين والقوميين، مُشكِّلا خطابا قوميا جديدا يحتل فيه الإسلام مكانة مركزية في المجال العام إلى جانب الهوية التركية. (الأناضول)
"أنا أعلن هنا أنني سأرسل كل اللاجئين إلى بلادهم فور انتخابي"
(كمال كليجدار أوغلو)
من خلال تشديد حملته ضد الجماعات المسلحة الكردية، يقدم أردوغان نفسه ليس فقط بوصفه زعيما إسلاميا، بل بوصفه "زعيما قوميا محافظا" يريد أن تحتل تركيا مكانا مرموقا في المسرح العالمي. فقد أصبح أردوغان، وفق تقديرات مراقبين، منذ محاولة الانقلاب العسكري عليه في عام 2016 زعيما قوميا بقدر ما هو إسلامي، لا سيما بعد أن تحالف مع أقدم وأكبر حزب قومي، وسمح لرجاله بأن يشغلوا العديد من المناصب البيروقراطية المهمة في الشرطة والقضاء.

خلق أردوغان جسورا تصل بين المحافظين والقوميين، مُشكِّلا خطابا قوميا جديدا يحتل فيه الإسلام مكانة مركزية في المجال العام إلى جانب الهوية التركية. ويظهر أردوغان وكأنه يدعو إلى قومية لها تاريخ أطول من التاريخ الضيق المُنحصِر في القرن الماضي فقط، وهو ما ظهر في اهتمام الإعلام الرسمي بالتاريخ العثماني والسلجوقي بوصفه تاريخا تركيا وإسلاميا في الوقت نفسه. كما أعاد حزب العدالة والتنمية تعريف مركزية مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية نفسه، بوصفه رمزا قوميا يمكن أن يمتد خط بينه وبين أردوغان.

ولعل الخيط الأبرز الذي لا يجعل رؤى أردوغان تتطابق تماما مع الرؤى القومية السائدة عادة هي موقفه من قضية المهاجرين واللاجئين، التي حاول أن يلعب عليها كليجدار أوغلو، خاصة بعد نهاية الجولة الأولى من الانتخابات، فقد بدأ المرشح المعارض يتماهى مع دعايا اليمين المتطرف ضد المهاجرين قائلا إن تركيا بها 10 ملايين مهاجر، ورغم ميل الكثيرين إلى حل أزمة المهاجرين بشكل حازم، فإن خطاب الكراهية الذي بدأ يصدر عن كليجدار أوغلو أسهم في انخفاض أسهمه في استطلاعات الرأي.

من جانبه، حاول أردوغان أن يقدم للناخب القومي حلولا لمسألة اللاجئين والمهاجرين دون الانزلاق إلى خطاب الكراهية، وذلك كي يُشعِره بأنه يُدرك أثرها الاقتصادي والتململ الاجتماعي الواسع من تزايد أعداد اللاجئين. ومن تلك الحلول إعادة التوطين الطوعي للاجئين وإعادة فتح قنوات الاتصال مع نظام بشار الأسد للتوصُّل إلى حل شامل للمسألة السورية، ومن ثم إعادة اللاجئين بشكل آمن. ونجح أردوغان في تناول اللاجئين على أنهم مشكلة يجب حلها بكفاءة، دون أن ينضح خطابه بالعنصرية أو ينتقص من حقوق المهاجرين أو يتعامل معهم بوصفهم خطرا اجتماعيا، حتى إن بعض المعارضين الليبراليين لأردوغان قالوا إن خطاب الكراهية الصادر عن المعارضة جعل نسخة أردوغان من القومية تبدو أكثر إنسانية.


في غضون ذلك، لم يزدد التحالف بين أردوغان وحزب الحركة القومية إلا رسوخا وانسجاما طيلة السنوات الماضية، لا سيما أن الحزب القومي يعتقد أهمية الإسلام ومركزيته بالنسبة إلى تركيا، فضلا عن موقف الحزب السلبي من الرأسمالية الليبرالية والتبعية الأجنبية، وهو ما يتناغم مع رؤية أردوغان فيما يتعلق باستقلال الاقتصاد التركي وتقليص الاعتماد على الغرب.

الرجل القوي في زمن الاضطراب
"على واشنطن تشجيع خصوم أردوغان على هزيمته انتخابيا، لكن ليس عبر تشجيع الانقلابات"
(الرئيس الأميركي جو بايدن خلال حملته الانتخابية في عام 2020)
على الجانب الآخر، خلق كليجدار أوغلو مسافة بينه وبين قطاع كبير من القوميين بدعمه للقوى المتطرفة الكردية. وقد كان هناك تيار كبير داخل تحالف المعارضة حتى أول مارس/آذار يجادل بأن كليجدار ليس الرجل المناسب لأنه علوي ولا يمتلك الكاريزما القومية المطلوبة لمنافسة أردوغان، وأنه لا بد من شخص يميل إلى القومية أكثر من الديمقراطية الاجتماعية اليسارية لمواجهة أردوغان من وجهة نظرهم. وقد أدار أردوغان حملته في الانتخابات الحالية على قاعدة الدين والقومية، بينما أدار كليجدار أوغلو حملته على نحو أقرب إلى شكل من أشكال الليبرالية التي لا تتصل بالقومية إلا من ناحية كراهية اللاجئين العرب والأفغان، في حين أخفق الرجل في لمس حاجة الناخب التركي إلى الاتجاه القومي أو القيادة الكاريزمية.

لقد كانت واحدة من السمات الأساسية لفترة حكم أردوغان في السنوات الماضية هي ظهوره بمظهر رجل الدولة القوي الذي استطاع وضع تركيا على مسرح اللاعبين الكبار في العالم، وعاند القوى الكبرى فيما رأى فيه مصلحة بلاده. وقد جعلت تلك السمة أردوغان جذابا في عيون الكثير من القوميين، وبحسب مقال تحليلي نُشر عام 2018 لمعهد الأبحاث الأميركي "هوفر"، فإن أردوغان يمثل امتدادا للدولة التركية القوية ورمزا جديدا لها لقطاع كبير من القوميين.


أضف إلى ذلك أن رغبة بعض الدول الغربية الواضحة في استبدال أردوغان، وهي رغبة عبّر عنها الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه خلال حملته الانتخابية، لعبت دورا في عزوف قطاع كبير من الناخبين القوميين عن التصويت للمعارضة وزعيمها، الذي يدعو إلى استعادة علاقات أقوى بالغرب، إذ يرى القوميون عادة في التدخلات الغربية تعديا صريحا على إرادة الدولة التركية. كما أنه في ظل تنامي اليمين المتطرف في أوروبا، يميل بعض القوميين إلى تعزيز الصلات بروسيا والصين على حساب الغرب، ويُعرَف هؤلاء بأصحاب الفكر القومي الأوراسي، ومنهم كثيرون في صفوف حزب الحركة القومية ممن يؤكدون على صلات تركيا التاريخية بأتراك آسيا الوسطى والقوقاز وجنوب روسيا، على حساب اندماج تركيا المشروط في أوروبا وحلف الناتو.

لقد لاقت السردية التي روّجتها حكومة أردوغان نجاحا بالفعل طيلة السنوات الماضية، وهي سردية تفيد بأن العالم قد دخل في حالة فوضى كبيرة، وأن قبطانا صارما وثابتا للسفينة التركية مثل أردوغان هو القادر على منع خراب مشابه لذلك الذي تعرضت له الدولة العثمانية في نهايتها. وهنا يبرز ملف تطوّر الصناعات العسكرية التركية في عهد أردوغان والحملات العسكرية المتكررة في شمال سوريا لمواجهة حزب العمال الكردستاني بوصفها خطوات واضحة جعلته يبدو متناغما مع النزعة القومية والعسكرية التي اتصف بها يوما ما مصطفى كمال أتاتورك، وهو ما يفسر رؤية الكثيرين للرجل بوصفه امتدادا لمؤسس الجمهورية، رغم التباين الكبير بينهما في علاقتهما بالدين ورؤيتهما لدور الإسلام في المجال العام.

___________