"علم الفضول".. ما الذي يقوله علماء الأعصاب عن السلوك الذي يميز العباقرة ومهاويس الإنترنت على حد سواء؟
لا نبالغ إذا قلنا إن الفضول هو الدافع الرئيسي الذي يحرك معظم أفعالنا. هناك دائما فضول وراء كل شيء بداية من اكتشاف أي اتجاه تضع به "الفلاش ميموري" في الحاسوب ووصولا إلى اعتناق أي نظرية مؤامرة مثيرة. إنه كذلك السبب في أعظم اكتشافاتنا العلمية والفلسفية التي طورناها على مدى تاريخنا الممتد إلى مئات الآلاف من السنوات، لذلك كان على علماء النفس والأعصاب دراسته. ما الفضول؟ ولمَ ينشأ؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون مفيدا أو ضارا؟ دان جونز من مجلة "نيوساينتست" يبحر معنا في عالم علم نفس وأعصاب الفضول بهذه المادة المبسطة والمفصلة.
نص الترجمة
في أحد الأيام الثلجية من شهر إبريل/نيسان عام 1626، كان فرانسيس بيكون، الفيلسوف ورائد المنهج العلمي، يتجول في شوارع لندن التي تكتنفها الثلوج، وبينما هو على هذه الحال، طرأ على ذهنه فجأة سؤال غريب ظل يحوم على غير هدى في رأسه: هل يمكن للبرودة أن تساعد في حفظ الدجاجة المذبوحة يا تُرى؟ ولإيجاد إجابة عن هذا السؤال، عقد عزمه على الذهاب فورا والحصول على إحدى الدجاجات من أسرة تقطن بمنزل قريب منه، وبالفعل شرع في حشو الدجاجة بالثلج. لكن أثناء هذه العملية، التقط نزلة برد، وأُصيب على إثرها بالتهاب رئوي، وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة.
تُشير هذه القصة التي نشرها الفيلسوف توماس هوبز ولا يزال مشكوكا في صحتها إلى أن الفضول قد يكون سلاحا ذا حدين، أحيانا يظهر بوصفه فضيلة، وأحيانا أخرى قد ينقلب إلى رذيلة. يغدو فضيلة عندما يكون هو القوة المحرِّكة للعلم والاستكشاف، ويظهر دوره المهم في نجاة جنسنا البشري واستمراره منذ قديم الأزل. كما يقودنا الفضول على المستوى الفردي إلى حياة مفعمة بالشغف وزاخرة بالمعنى، فكِّر في ليوناردو دافنشي على سبيل المثال، الذي لو لم يسيطر عليه الفضول لما وصل إلى شيء في النهاية.
لكن عندما ينقلب الفضول إلى "شهوة عقل"، كما يقول هوبز، فإننا ننتقل إلى الجانب المظلم له، وهو جانب الرذيلة الذي يقودنا إلى إهدار الوقت في البحث عن أخبار مزيفة، أو الانغماس كليا في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو مشاهدة فيديوهات تنطوي على تجارب شديدة الخطورة، على غرار القفز من مسافات بعيدة بالمظلة، في محاولة لمعرفة ماهية الشعور الذي يتسلل إلى هؤلاء المغامرين أثناء خوض هذه التجارب. وفي خضم انهماكنا مع هذه الأشياء كلها، وبسبب هذا الفضول، قد ينتهي بنا المطاف إلى سبيل محفوفة بالمخاطر.
في ظل عالمنا الحديث المُنسَحِق تحت وطأة هذه الإلهاءات والمُشتتات، سيكون من الجيد أن نتمكَّن من توجيه فضولنا نحو الجانب الأصح لتحقيق أقصى استفادة منه. لم تسلِّط الأبحاث التي أُجريتْ مؤخرا حول طبيعة الفضول باعتباره سلاحا ذا حدين الضوء فقط على فوائده للتعلم والإبداع، بل استثارت الانتباه حول الطرق التي قد يدفعنا بها الفضول إلى الهاوية، ولِمَ قد يتعيّن علينا أحيانا كبح فضولنا.
فجوة في المعلومات
على الرغم من أن الفضول هو بلا شك حالة سيكولوجية مُعقدة، فإن معظم الباحثين يُعرِّفونه بأنه نوع من الشرارة التي توجد داخل كل واحد منا تجعلنا نتوق إلى تعلُّم الأشياء وجمع المعلومات حول ما يحيط بنا في عالمنا، وهو أمر يتعيّن على جميع الكائنات الحيّة القيام به. تقول جاكلين غوتليب، عالمة الأعصاب الإدراكية من جامعة كولومبيا بنيويورك: "إن المعلومات التي تستقيها الكائنات الحية من البيئة حولها شأنها شأن الطاقة التي تلعب دورا أساسيا في النجاة والاستمرار". والفضول ليس شيئا نملكه ونمتاز به على غيرنا من المخلوقات الأخرى، فالكائنات الدقيقة على غرار الديدان الخيطية أو الأميبا تُبدي أيضا فضولا حول بيئتها، حتى وإن كان محدودا ومباشرا للغاية مثل أين يمكن أن تجد الطعام.
على الجانب الآخر، نجد أن فضول البشر، وبالأخص أولئك الذين يتمتعون بدرجة عالية من حب الاستطلاع، يكون أكثر اتساعا وانفتاحا وقوة. فعندما يدرك الناس أنهم يفتقرون إلى المعرفة المطلوبة، سرعان ما يُخلِّف ذلك وراءه شعورا باللا يقين، ولأن طبيعة الإنسان تنجذب بقوة إلى السعي لمعرفة الأشياء وإضفاء طابع ذي مغزى عليها عند التعامل مع اللا يقين، فإنهم يلجؤون إلى الفضول باعتباره القوة الأساسية التي تدفعهم إلى بلوغ مسعاهم.
(شترستوك)
تُشير الدراسات الحديثة إلى أن الفضول عند الأطفال أساسه الرغبة في المعرفة، ولا يمكن اعتباره علاقة جيدة تربط الأطفال بهذا العالم الجديد فحسب، بل هو أداة عظيمة أيضا لإزالة الجهل الذي وُلدوا به. لذلك ابتكرت سيليست كيد، عالمة النفس بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، سلسلة من مقاطع الفيديو لاستكشاف فضول الأطفال وقدرتهم على التنبؤ. أظهرت مقاطع الفيديو صورا للعبة تشبه سيارة إطفاء تختفي بصورة متكررة وراء شاشة تستمر في الهبوط والصعود فتحجب وراءها اللعبة. وفي كل مرة تُرفع فيها الشاشة من أمام اللعبة، ستكون السيارة موجودة باحتمالية معينة.
في بعض الأحيان، كان احتمال وجود اللعبة عاليا جدا، فكلما ارتفعت الشاشة، وجدوا وراءها اللعبة، بينما في أحيان أخرى، كانت فرص ظهور السيارة من وراء الشاشة أكثر عشوائية، ما تسبَّب في انخفاض قدرة الأطفال على التنبؤ. بعد ذلك، تعرَّض الأطفال إلى سيناريو ثالث يتأرجح بين الحالتين. قاستْ "كيد" انتباه الأطفال المشاركين باستخدام أدوات تتبع حركة العين لمعرفة المكان الذي كانوا يبحثون فيه، وتوصلتْ الدراسة إلى أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سبعة أشهر أظهروا حماسا وفضولا أكبر تجاه سلسلة التنبؤات متوسطة الصعوبة، فلا هي بالتنبؤات السهلة حد الضجر، ولا بالتنبؤات المُربِكة فائقة الصعوبة.
ترى "كيد" أن هذه النقطة اللطيفة التي تقع في المنتصف بين قدرة المرء على التنبؤ من ناحية وشعوره بعدم اليقين من ناحية أخرى هي أفضل مساحة يمكن للمرء أن يوجِّه إليها فضوله، وهذه المساحة من المواقف التي تُثير فضولنا بنسبة معينة توفر أفضل فرص مفيدة لتعلم شيء عن العالم المحيط بنا. في شهر يوليو/تموز من هذا العام، أبلغتْ كيد عن العثور على نوع من القردة يُسمى "المكاك ريسوس" أظهر النمط ذاته من الفضول الذي ينتاب البشر، وعلقت بالقول: "نحن نملك آلية ذاتية تبحث عن المعلومات التي يخيّم عليها قدر مناسب من الغموض أو اللا يقين حتى نتمكَّن من دمجها مع فهمنا الحالي للعالم".
كلما تقدم البشر في العمر، ساقتهم روح المغامرة إلى مواضيع أبعد بكثير من مجرد التعرف على ماهية الأشياء في العالم المحيط بهم، إذ نغدو بمرور الأيام مفتونين بشدة بموضوعات مجردة على غرار الرياضيات أو الفلسفة مثلا، وربما نكتشف في كثير من الأحيان أن الأشياء التي قد تُثير فضولنا لا تحمل بالضرورة ميزة تطبيقها فورا على حياتنا اليومية. تقول عالمة النفس غوتليب: "إننا نقضي الكثير من الوقت في الحصول على معلومات دون معرفة قيمتها أو وجه الاستفادة منها، لذا فإن أفضل طريقة لقياس أهمية هذه المعلومات بالنسبة إلينا هي ببساطة سؤال الناس إلى أي مدى لا يستطيعون تحرير أنفسهم من الفضول إزاء موضوع أو حقيقة معينة!".
تُشير إحدى النظريات إلى أن سبب شعورنا بالفضول يرجع إلى ما يُسمى "فجوة المعلومات"، وهي الفجوة التي نشعر بها بمجرد أن نقابل سؤالا لم تزل إجابته غامضة عن العقل. إذا كان حجم هذه الفجوة كبيرا للغاية، فسيبدو السؤال الذي يُحيِّرنا خارج نطاق سيطرتنا ومُنهِكا للغاية، وإذا كان حجم الفجوة صغيرا جدا، فسيُجبرنا الملل على تجاهل الأمر برُمَّته. يزداد فضول البشر تجاه أشياء تقع في مكان ما في المنتصف، أشياء مفاجئة ومفيدة، ولكن في الوقت ذاته لا يحفّها الغموض لدرجة يتعذر علينا فهمها.
الأمر ذاته انطبق على الدراسة السابقة التي شملت الأطفال، فلم يجذب فضولهم إلا المشاهد التي تقع درجة تنبؤها في المنتصف، لا هي بالدرجة اليسيرة حد الضجر، ولا بالعصيبة حد الإنهاك. لذا فتحقيق هذا التوازن أمر بالغ الأهمية للجميع، إذ أظهرت العديد من الدراسات أنه كلما ازداد شعور الناس بالفضول تجاه إجابة عن سؤال معين حتى وإن كان تافها، ازداد تذكُّرهم لإجابة هذا السؤال بدرجة أفضل.
إحماء خلايا المخ وتحفيزها
أظهرتْ دراسة حديثة أن الفضول يضع المخ في حالة نشاط ويحُسِّن من الذاكرة، ليس فيما يتعلق بالموضوع الذي أثار انتباهنا فحسب، بل بأي شيء يتعرض له الإنسان أثناء هذه العملية. لتأكيد ذلك، أجرى ماتياس جروبر، من جامعة كارديف بالمملكة المتحدة، دراسة طلب فيها من المتطوعين تقييم مستوى فضولهم وفق سلسلة من الأسئلة البسيطة، ثم رَصَد نشاط المخ بالماسح الضوئي أثناء رؤية المشاركين للأسئلة. توصل جروبر في النهاية إلى أن المشاركين تذكروا إجابات الأسئلة التي أثارتْ فضولهم بدرجة أفضل من التي كان اهتمامهم بها أقل.
توضِّح دراسة جروبر أن نقطة انطلاق الفضول تبدأ عندما يواجه المرء أسئلة مشوبة بالغموض أو اللا يقين، حينها يشعر بأن ثمة فجوة بين معلوماته أخذت تتوسع تدريجيا. وما إن يحدث ذلك، حتى يبدأ "الحُصين" (hippocampus) في النشاط (وهو منطقة في الدماغ الخاصة بالذاكرة والتعلم)، ويزداد أيضا نشاط القشرة الحزامية الأمامية (وهي منطقة تلعب دورا في مراقبة عدم تطابق المعلومات في الدماغ). مع كل هذه المناطق التي تُظهِر نشاطا، يُقدِّر الدماغ كم سيكون مُجزيا أن يملأ هذه الفجوة المعرفية، التي تَظهر على هيئة نشاط في قشرة الفص الجبهي.
هذه الخطوة الأخيرة هي الموطن الذي يظهر فيه الاختلاف الأكبر بين الأشخاص. وعن هذا يقول جروبر: "يمكن للمحفزات نفسها أن تثير درجات متفاوتة من الفضول لدى الناس. فأحيانا قد لا يُثير موقف ما أي فضول على الإطلاق بالنسبة لبعض الناس، في حين قد يتسبَّب الموقف ذاته في إثارة فضول نوع آخر من البشر لدرجة قد تصل معهم إلى تأجيج مشاعر القلق باعتبار أنهم في خضم موقف يواجهون فيه مشاعر متعلّقة باللا يقين، وليس أشق على النفس ولا أدعى إلى إثارة القلق من خوض تجارب جديدة دون أي خلفية عنها".
إذا قيَّم الدماغ أن المشاعر المرتبطة بفضولنا هي مشاعر إيجابية، فإنه يتعامل مع الفضول مثل الكثير من الأنشطة الممتعة التي تُحفِّز إطلاق الدوبامين. وساعتها يُعزِّز الفضول من قدرة الناس على التعلُّم وحفظ المعلومات الجديدة، وذلك بفضل مراكز المكافأة والذاكرة الرئيسة في الدماغ. كما اتضح أن الدماغ يُميّز المعلومات التي نتعرض لها أثناء عملية الفضول، إذ تتفاعل بأعماق أعماقنا، وتُعيد تشكيل نفسها بصورة نابضة وبارزة في ذاكرتنا، ما يساعد على تكوين ذكريات أقوى. على المنوال ذاته يقول جروبر: "يعمل الفضول على إحماء هذه الدوائر العصبية في دماغنا، وبالأخص منطقة الحُصين لإعداد الدماغ لعملية التعلم وخلق ذكريات طويلة الأمد".
اكتشف ماتياس جروبر أثناء دراسته أن الفضول يضع عقل الإنسان في حالة يكون خلالها قادرا على استقبال وتذكُّر كل شيء، سواء كان له صلة بالموضوع أو لم يكن له علاقة بتاتا بالأمر. بمعنى أنه إذا قَدَّمَ للمشاركين حقيقة تافهة أو بسيطة يمكن أن تُثير فضولهم، وفي الوقت ذاته عرض عليهم صورة لأحد الوجوه التي لا علاقة لها بالموضوع، فعلى الأرجح سيتعرفون بسهولة على هذا الشخص لاحقا وسيتذكرون تفاصيل وجهه. في النهاية، يُفضي ذلك إلينا بشيء مهم، وهو أن الفضول يساعد أيضا على تذكُّر المعلومات العرضيّة أو العابرة حتى وإن لم تكن ذات صلة بالموضوع.
إلهاء الفضول
بعيدا عن الذاكرة، قد يساعد الفضول أيضا في تدفق عملية الإبداع، إذ تُشير دراسات مختلفة إلى أن سمتَيْ الفضول والإبداع تربطهما آصرة ولو بدرجة بسيطة. صحيح أن الرابط السببي لا يزال محل تساؤل، لكن من الواضح أن الفضول يمكنه تطوير القدرات الإبداعية من خلال تحفيزنا على جمع المعلومات وخوض غمار تجارب جديدة، ما يجعلنا أكثر احتكاكا بحقائق وأفكار وطرق تفكير مختلفة يمكن أن تولِّد رؤى أو حلولا جديدة للمسائل المؤرقة التي نواجهها في حياتنا.
مع احتمالية وجود ذاكرة قوية للغاية، وميل للابتكار، قد تعتقد أن تنمية فضولك عن عمد هي صفقة رابحة لا تحتاج منك إلى لحظة تردد. ومع ذلك، تُظهر العديد من الدراسات أن لصفة الفضول بعض الجوانب السلبية، أشدها وضوحا هو الإلهاء والتشتيت وإهدار الوقت في تصفح العناوين المُضللة التي تستغل الفجوات المعلوماتية لدينا. غير أن المشكلة تزداد تعقيدا بالنسبة للعديد من الأشخاص الذين تتملَّكهم رغبة شديدة لسد هذه الفجوات لدرجة أنهم يفشلون في مقاومة تلك العناوين حتى وإن لم يكن الموضوع ذا أهمية فعلية، ويقودهم في نهاية المطاف إلى معلومات غير جديرة بالثقة وتفتقر إلى المصداقية.
لاستكشاف السبب وراء هذا التصرف، طوَّر علماء النفس طرقا لقياس رغبتنا في سد الثغرات المتعلقة بمخزون المعلومات لدينا، وإحدى الأدوات الشائعة هي الاستبانة التي تطلب منك تقييم عبارات تصف شعور الشخص عندما يتلبَّسه الفضول على غرار: "تجتاحني دوامة تشبه الحمى بمجرد مواجهة مشكلة ما تُشعل رغبتي في إيجاد حل لها"، وهو شعور يُفترض أنه مدفوع بالفضول حول الإجابة المحتملة.
من الواضح أن مثل هذه الميول قد تكون بمنزلة إشارات تحذيرية. في يونيو/حزيران من هذا العام، أجرتْ كلير زيديليوس من جامعة كاليفورنيا هي وزملاؤها دراسة عن هذا الموضوع، وتوصلوا إلى أن الأشخاص الذين سجَّلوا درجات مرتفعة في هذه المقاييس كانوا أكثر عُرضة لتسجيل درجات أسوأ في مقاييس المعلومات العامة، فضلا عن أنهم كانوا أكثر تقبُّلا للأخبار المزيفة وغيرها من أشكال الهراء الأخرى. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل كانوا أكثر ميلا لتصديق قصة مزعومة عن طائرة "اختفت وهبطت بعد 37 عاما"، أو تصديق أحد الادعاءات التي تزعم بأن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما اعتُقِل بتهمة التجسس.
كشفتْ الدراسة أيضا عن أن هذه النوعية من البشر كثيرا ما تميل إلى إيجاد معنى في جمل قد تبدو عميقة في ظاهرها لكنها فارغة في باطنها، على غرار "الانتباه والنية هما آليات التجلي". لو انتبهت قليلا ستُدرك أنها جملة لا تنطوي على أي معنى منطقي. في النهاية، أوضحتْ الدراسة أن المشاركين الذين أظهروا رغبة مُلِحَّة في حل الأسئلة التي ليس لها إجابات، فشلوا في انتقاء مصادر جيدة للمعلومات التي كانوا على استعداد لإهدار وقتهم في سبيلها.
الأبعاد الخمسة للفضول
(شترستوك)
أحيانا يقودنا الفضول نحو طرق مُظلمة ومثيرة للاكتئاب، وتظهر تبعاته السلبية عند محاولة التعامل مع المواقف الصعبة مثل جائحة كورونا. دفعتْ هذه التبعات المعقدة بعض الباحثين مثل تود كاشدان، عالم النفس بجامعة جورج ماسون في فيرجينيا، إلى تطوير نموذج يشرح فيه خمسة أنواع أو "أبعاد" تُشَكِّل فضولنا. أطلق على البُعد الأول "حساسية الحرمان" (deprivation sensitivity)، وهو إدراك الفجوة التي يوفر سدها الشعور بالراحة. هذا النوع من الفضول يعكس رغبتنا الشديدة في معرفة إجابات عن أسئلة لا تنفك تتردد على أذهاننا وننجذب إليها انجذابا مُكَثفا.
أما البُعد الثاني فأطلق عليه كاشدان "الاستكشاف المُبهج" (joyous exploration)، وهو السعي لاستكشاف أحداث جديدة، ويُعَدُّ خبرة مُمتعة في جوهره. أولئك الذين يملكون هذا النوع من الفضول يتمتعون بموهبة التفكير في الأشياء بعمق والافتتان بالعالم من حولهم. لطالما مَثَّل هذان البُعدان معا معنى الفضول بصورته التقليدية في جميع الدراسات النفسية. غير أن كاشدان ذهب إلى أبعد من ذلك، واقترح بُعدا ثالث أطلق عليه "تحمل الإجهاد" (stress tolerance)، وهو قدرتنا على احتضان مشاعر القلق التي هي جزء طبيعي من فطرتنا عند خوض غمار أي تجارب جديدة أو غير متوقعة أو غامضة.
أحيانا يكون حب الاستطلاع لدى بعض الناس نهما لدرجة أنه لا يوجد شيء يثبطه، ولكن في أغلب الأحيان يتملك معظم الناس رهبة من المجهول. يقول كاشدان: "غالبا ما يقتحم الناس رغبة في سبر أغوار المجهول، واكتشاف خباياه، لكن ما يمنعهم عن ذلك هو اعتقادهم بأنهم ليسوا أهلا للتعامل مع ما ينطوي عليه هذا المجهول". وثمة بُعد رابع وهو "البحث عن الإثارة" (thrill-seeking). يرى كاشدان أن الشخص الذي يتمتع بهذا النوع من الفضول يميل إلى مواجهة أي مخاطر صحية أو مالية أو قانونية أو اجتماعية لاكتساب تجارب جديدة، واغتنام أي فرصة بإرادة متوثِّبة. في حين أطلق على البُعد الأخير "الفضول الاجتماعي"، وهو استعدادنا للتعلم من الآخرين، وتتجلى وظيفة حب الاستطلاع الاجتماعي في تكوين روابط شخصية وتسهيل مشاعر الانتماء.
(شترستوك)
إن أحد الاختلافات المهمة بين الفضول باعتباره شعورا بالمتعة والفضول بوصفه شعورا بالحرمان هو أن النوع الأول المرتبط بالمتعة يُفترَض أنه يعزز السلوك الاستكشافي، ويرتبط ارتباطا وثيقا بعملية الإبداع أكثر بمرتين من الفضول المتعلّق بمشاعر الحرمان. وفي الدراسة التي قادها زيديليوس، وعَرَض فيها على المشاركين معلومات مُزيفة، كان الأشخاص ذوو الحساسية العالية للحرمان أكثر عُرضة للسقوط فريسة للأخبار المزيفة والهراء.
يُظهِر بحث كاشدان الذي نُشِر عام 2020 أن هذه الأبعاد الخمسة للفضول يمكن من خلالها أن نخرج بنتائج مختلفة في أماكن العمل. فالأفراد الذين أحرزوا درجات مرتفعة في الفضول المتعلِّق بالمتعة وتحمل الإجهاد (باحتضان وتفهم مشاعر القلق)، أظهروا مؤشرات أفضل في الإبداع والابتكار في العمل، وكذلك أبدى الأفراد الذين تمتعوا بمستويات عالية من الفضول الاجتماعي وتحمل الإجهاد مشاعر بالرضا الوظيفي. لا يتطلب الأمر الكثير لتحفيز قدرتك على الفضول الإيجابي، فمجرد تجربة أطعمة جديدة أو الاستماع إلى لون جديد من الموسيقى، أو زيارة مدينة جديدة والتحدث إلى الناس، كلها تجارب ستفي بالغرض وتحفز الفضول لديك.
يمكنك استغلال هذه التجارب البسيطة للتسامح مع فكرة اللا يقين تجاه أي شيء جديد والترحيب بالمجهول، كما يمكنك أيضا التغلب على أي إحراج قد يراودك من إظهار جهلك أمام الناس. تنطوي حساسية الحرمان تحديدا بوصفها بُعدا من أبعاد الفضول على نمط انفعالي مميز، إذ يتصدر كلٌّ من القلق والتوتر المشهد ويمسكان بزمام الأمور. لذا بمجرد أن تتسامح مع هذه المشاعر كلها ستدرك أنه لا بأس إذا اعترفت للآخرين أنك لا تفهم ما يقصدونه، أو أنك تجهل طريقة عمل شيء معين، ويمكنك النظر إلى جهلك على أنه فرصة للنمو.
من المهم التأكد من أنك تغذي فضولك بمصادر تحفيز غنية فكريا، بدلا من تتبع العناوين الكاذبة والأخبار المزيفة. يقول كاشدان: "إن الحياة الجيدة من وجهة نظر معظم الفلاسفة تبدأ بمعرفة نفسك وفهم قيمك وميولك، وما الذي شكَّل هويتك الحالية. يُعَبِّد الفضول سبلا يمكن أن تقودك حقا إلى فهم المعنى والهدف من الحياة".
الثمن الذي ندفعه لاستكشاف المجهول
(شترستوك)
في دراسة نُشرت عام 2016، عُرض على المشاركين مجموعة من الأقلام الملونة، وأخبروهم أن هناك مجموعة من الألوان بمجرد النقر عليها ستُسبِّب لهم صدمة كهربائية خفيفة، والبعض الآخر لن يُسبِّب لهم شيئا، في حين أن ثمة مجموعة ثالثة من هذه الألوان تتأرجح احتماليتها بين أن تُسبِّب لهم صدمة أو لا. والمثير للدهشة أن جميع المشاركين وجدوا أنفسهم أسرى رغبتهم الحارقة في النقر على مجموعة الألوان التي تحمل إجابة غير مؤكدة وتتأرجح بين الاحتمالين. كان الحصول على الصدمة الكهربائية هو الثمن الذي أبدوا استعدادا لدفعه في سبيل حل تلك المسألة المشوبة بالمجهول واللا يقين.
على المنوال ذاته، يكشف اشتعال شهيتنا إزاء أفلام الرعب وبرامج الجريمة المروّعة عن فضولنا الذي يلح إلحاحا شديدا تجاه هذه الأشياء البغيضة. توصلتْ سوزان أوسترويك من جامعة أمستردام في هولندا إلى أن الناس غالبا ما يُفضِّلون النظر إلى المشاهد المروّعة التي تصور الدماء أو الموت على المشاهد الطبيعية الحيادية، وأن مشاهدة المحتوى السلبي يمكن أن تنشّط دوائر المكافأة في الدماغ. قد يكون لهذا الاتجاه غرض ما تقول عنه أوسترويك: "هذا النوع من الفضول المَرضي قد يلعب دورا في تهيئة عقلنا عند مواجهة الأشياء السيئة، لكن حينما يبلغ أقصى مداه، يمكن أن يتسبب في انكبابنا قهريا على وسائل التواصل الاجتماعي في دوامة أبدية بحثا عن قصص ترمينا في حالة من البؤس والاكتئاب".
أصبحت قضية الفضول المَرضي موجودة بصورة صارخة خلال العامين الأولين من جائحة كورونا. ازداد حينها فضول الناس تجاه الفيروس لأقصى مدى، وكشفتْ الدراسات الاستقصائية عن أن الانكباب على وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة الأخبار المتعلقة بالفيروس، ارتبط بارتفاع مستويات الضغوط النفسية، وتبيَّن أن قضاء بضع دقائق فقط في تصفح الأخبار السلبية المتعلقة بفيروس كورونا، أو مشاهدة مقاطع فيديو على اليوتيوب حول هذا الموضوع، زاد من المشاعر السلبية، وأفقد الناس سلامتهم النفسية التي لم يعد يربطهم بها إلا أوهى الصلات.
اعتمادا على الأبعاد المختلفة للفضول، قرر كاشدان إجراء استطلاع على 3000 مشارك لقياس درجات فضول الناس. أظهر الاستطلاع أن ما يقرب من 28% من الناس يمكن وصفهم بـ"المفتونين"، وهم الذين سجلوا أعلى درجات الفضول بوصفه شعورا ممتعا أو "استكشافا مبهجا". قرر هؤلاء ألا يتهاونوا في حب الحياة واستكشاف خفاياها، واتضح أنهم يقرؤون معظم المجلات ويتصفحون معظم المواقع الإلكترونية، ويتيقظ في أنفسهم أكبر قدر من الشغف، ويملكون أكبر عدد من الأصدقاء، ويحرزون أكبر قدر من المال. في حين أظهر الاستطلاع أن ثمة 28% من الأفراد يوجِّهون فضولهم إلى "حل المشكلات"، وبالطبع سجَّلوا درجات أعلى من غيرهم فيما يتعلق بالحساسية للحرمان (وهي كما قلنا سابقا الحاجة إلى العثور على إجابات لأسئلة محددة مهما كلَّف الأمر).
(شترستوك)
غير أن هذا النوع من الأفراد يتمتع أيضا بدرجة عالية من تحمل الإجهاد، في حين سجَّل مستوى منخفضا من الفضول الاجتماعي. تلوح في عينَيْ هذه الفئة نظرة شاردة تغيب بأصحابها عما حولهم، وقد يُفضِّلون حل الكلمات المتقاطعة على أن يسألوا شخصا ما عن حياته، ويوجِّهون فضولهم بدلا من ذلك نحو اهتمامات أخرى بقوة أكبر. يأتي بعد ذلك فئة "المتعاطفين"، الذين يُشكِّلون 25% من الناس. تتمتع هذه الفئة بمستويات مرتفعة من الفضول الاجتماعي، مقابل مستويات منخفضة من تحمل الإجهاد أو البحث عن الإثارة. ومع ذلك، تُعَدُّ هذه الفئة هي الأكثر قبولا بين الفئات، ومعظم أفرادها من النساء، وعادة ما يتمتعون بشبكات اجتماعية ضخمة على الإنترنت. أما المجموعة الأصغر فهي "المتجنبون"، تُمثِّل هذه الفئة نسبة 19%، ويحرز أفرادها مستويات أقل في كل شيء، سواء في التعليم، أو الشغف أو الدوائر الاجتماعية أو إحراز المال.
هل الأطفال أكثر فضولا من البالغين؟
يتجلى الفضول البشري منذ طفولتنا، حينما ننتقل من شرنقة الهيام الغامض إلى حومة تجارب جديدة نكتشف من خلالها العالم المُحيط بنا. في البداية، يبدأ الأطفال في فحص العالم المحيط بهم بإمعان واهتمام شديدين، وما إن يتمكَّنوا من الزحف والإمساك بالأغراض من حولهم والبدء في خطو أولى خطواتهم، حتى تستحوذ عليهم حمى استكشاف المعلومات الجديدة بأي وسيلة كانت. لذا تقول عالمة النفس تانيا لومبروزو من جامعة برينستون: "إن معظم فضول الأطفال نابع في الأصل من رغبة مُلِحَّة في اكتشاف كيفية عمل الأشياء، ولأي غرض صُنعتْ؟ يفتحون حواسهم على أقصاها في محاولة منهم لتشرُّب أكبر قدر ممكن من المعلومات التي يتمتع بها البالغون".
تقول الحكمة التقليدية إن فضولنا الفطري انسحق تحت وطأة ملل الدراسة، ومن بعده المتطلبات العملية لحياة البالغين، في حين ترى لومبروزو أن هذه الحكمة لا تدعمها أدلة قوية أبدا، وكل ما هنالك أن الفضول اتخذ أشكالا مختلفة مع نضجنا. فكلما تقدمنا في السن، وجَّهنا فضولنا الاستكشافي الواسع إلى فضول أكثر توجُّها نحو اكتساب معلومات عن مواضيع مُحددة، وعن هذا تقول: "عندما يتعيّن علينا تحقيق أنواع معينة من الأهداف ونحن بالغون، فعادة ما نميل إلى توجيه انتباهنا نحو هذه الأهداف، ونتجاهل كل ما ليس له علاقة بها".
أحد الجوانب السلبية لتقدُّمنا في العمر هو أن أفكارنا تميل إلى أن تكون أكثر جمودا وثباتا، ما يحد من تدفق عملية الإبداع. لذا في نهاية المطاف، تقول لومبروزو: "يميل البالغون دوما إلى إسناد الأشياء إلى وظيفتها الأساسية، كالصندوق على سبيل المثال، الذي يفكرون في استخدامه بطرق معتادة لتخزين الأشياء فقط. لكن أحيانا يتطلب منا الأمر استخدام الأشياء بطرق مختلفة وخلّاقة لحل مسألة ما تواجهنا، واتضح أن الأطفال يمكن أن يتفوقوا على البالغين في هذه الأنواع من الألغاز". لذا فالسر يكمن في أن تُطلِق العنان لفضولك لكي يجعلك أكثر تحررا ويُضفي عليك طابع المرح والإبداع.
_______________________________________________
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر : الجزيرة