السقوط الإعلامي الغربي… الحبل على الغارب
كثير من المتعاطفين مع تركيا والرئيس رجب طيب اردوغان في الشرق الأوسط صدمتهم التغطية الإخبارية الغربية للانتخابات الرئاسية والنيابية في تركيا الشهر الماضي.
هم على حق في مشاعرهم وفي التعبير عنها، لأن تلك التغطية افتقدت فعلا لأبسط مقومات العمل الإعلامي ومعايير المهنية كما وضعها الغرب نفسه وفرضها على العالم.
لهذا حفلت الصحافة العربية ومنصات التواصل الاجتماعي بالتقارير والمقالات عن الإخفاق الإعلامي الغربي في امتحان تركيا، وأفتى من هب ودب في سقوط الأقنعة وانهيار الغرب الأخلاقي.
لقد كانت التغطية الإعلامية الغربية للانتخابات التركية ليس فقط إخفاقا، بل كانت مخزية ومؤسفة. لا يحتاج المرء إلى أن يكون حليفا لاردوغان أو مفتونا به ليشعر بالاستياء من ذلك الكمِّ المهول من الانحطاط المهني في تلك التغطية.
بعض «المؤثرين» المعجبين باردوغان أضافوا لتركيا إخفاقا آخر سبقه بشهور في قطر لمناسبة كأس العالم فيفا 2022.
مثل تركيا، نزلت التغطية الإعلامية الغربية لمونديال قطر إلى حضيض سحيق من اللامهنية. لم يتوقف الأمر في مونديال قطر عند عمل صحافي جانَبَ الصواب، بل كان عبارة عن حملة منظمة اتسمت بكثير من الغطرسة والاستعلاء.
لكن هل هذا هو كل شيء؟
لا. هذا فقط ما علق في الذاكرة (إلى حين). قبل هذا وذاك هناك التغطية الإخبارية الغربية للعراق طيلة العقد الذي سبق احتلاله في 2003. هذه حالة يجب أن تُدرَّس في كليات الصحافة تحت بند: إذا أردت أن تكون صحافيا محترما فلا تفعل مثلهم!
وهناك الضخ الإعلامي حيال إيران طيلة عقود (ولا يزال). وهناك الصين التي أصبحت في العقدين الماضيَين الشيطان الجديد. وهناك أيضا فنزويلا. ولو وُجدنا خلال أزمة الصواريخ مع كوبا سنة 1962 كنا حتما سنسمع ونقرأ شيطنة مماثلة لكوبا وفيدال كاسترو.
أما أحدث نموذج للإخفاق الغربي فهو روسيا، النموذج الصارخ. الذين هالتهم التغطية الإخبارية الغربية للانتخابات في تركيا وكذلك مونديال قطر 2022، نسوا العراق والصين وإيران، وغالبا لا يعرفون الكثير عن التغطية الإعلامية الغربية للحرب الروسية على أوكرانيا، أو لا تعنيهم.
أقل ما يمكن أن توصف به تغطية الحرب في أوكرانيا أنها سيل جارف من الإخفاقات المتعمدة والتضليل المقصود.
ما يصدر يوميا في كبريات المؤسسات الإعلامية الغربية حول الرئيس فلاديمير بوتين يشبه إلى حد كبير ما كان يُنشر من هذر عن صدام حسين.. مرة حديث عن إصابته بمرض غريب فيُستدعى خبراء لغة الجسد وفك رموز حركة الشفاه للإفتاء في الأمر. مرة خوفه المفرط من اغتيال أو انقلاب فيُستدعى علماء النفس لفك شيفرة الحالة النفسية للرجل في تلك اللحظة. مرة توارى عن الأنظار فلا بد أن في الأمر خطبا ما. مرة أخرى أصبح كثير الظهور للعلن فلا بد أنه يُدبّر لأمر ما. مرة حديث عن انشقاق عسكري وتمرد كبير في صفوف القوات المسلحة وغير ذلك من سيناريوهات يختلط فيها الخيال بالأُمنيات.
هناك أكثر من عنوان في السقوط الإعلامي الغربي. أبرزها أنه ليس جديدا ولم يتغيّر مع الزمن. هو فقط يتوارى ليعود عند الحاجة بنفس نمط الماضي وقوالبه. وهو يمتد جغرافيا في كل العالم الغربي المتعارف عليه، أي دول أوروبا وأمريكا وأستراليا. لكن مشكلته الأكبر أنه في الحالات الثلاث المذكورة آنفا، تركيا وقطر وأوكرانيا، شمل الجميع، حتى المؤسسات الإعلامية التي شاع عنها أنها «محايدة» غير مؤدلجة. هناك فقط فروق سطحية في الحدّة والتطرف، وفي وجود مؤسسات إعلامية تقود حفلات دق طبول الحرب وأخرى تقف عند حدود شيطنة العدو. القاسم المشترك بين الجميع اتفاقهم على خنق أيّ تفكير أو رأي يحاول أن يسير عكس هذا التيار الجارف. صفحات الرأي ومساحة المقالات تخلو من أيّ كلام عن أن أوروبا بلعت طعما أمريكيا فوجدت نفسها أكبر الخاسرين في الحرب الروسية على أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة مثلا هي أكبر المستفيدين من هذه الحرب لهذا تعمل ما في وسعها لاستمرارها، وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي ليس زعيما استثنائيا أو بطلا قوميا، بل مجرد فنان متواضع قادته الصدف إلى أعلى المراتب، وأنه سياسيا وعقائديا قد لا يختلف عن بوتين، وأنه لا يملك حرية قراره أمام المخططين الاستراتيجيين ومجمعات الحروب في أمريكا وأوروبا.
هذه الأفكار، بغض النظر عن صوابها من عدمه، موجودة بين الناس والنخب في المجتمعات الغربية، لكنها ممنوعة من البروز بموجب اتفاق غير مكتوب متوارث مثلما مُنعت في حالات سابقة أبرزها العراق وستُمنع لاحقا. هذا ما يجعل الصحف والمواقع الإخبارية الغربية اليوم متشابهة في عناوينها ومضمونها حيال حرب أوكرانيا على سبيل المثال.
العالم في أزمة أخلاقية كبيرة أحد تجلياتها أن الإعلام الغربي أصبح قوة مكملة للجهات السياسية والعقائدية والاقتصادية المهيمنة، بدل أن يكون قوة مقابلة لها.
كل جرائم بوتين وبشار الأسد والنظام الإيراني السابقة مجتمعة لا يجب أن تكون ذريعة لوسائل الإعلام الغربية لتضليل العالم وإغراقه في الدعايات والمغالطات. وطموحات الصين وروسيا وأيّ دولة أخرى من خارج الفلك الغربي لا يمكن أن تكون حجة لحرمان الناس من حقهم في معلومة صادقة.
إلا أن الأشياء تسير بسرعة نحو التغيير، فالفرق بين 2003 و2023 يتمثل في إعلام شعبي بديل يوشك على التهام الإعلام التقليدي. وسائط التواصل الاجتماعي، رغم مخاطرها وجموحها، يجب الاعتراف لها بالفضل في مزاحمة الإعلام الغربي التقليدي وسطوته الخطيرة.
حتى سيطرة الغرب على هذه الوسائط لم تعد كافية، لأنها مليئة بالثغرات ولأن الطرف الآخر أوجد لنفسه منصاته الخاصة كما تفعل الصين وروسيا.
(توفيق رباحي - القدس العربي)