الخطة الأردنية "ب" واليوم التالي لنهاية التسوية
لم يعد هنالك شكّ، ولو بأدنى درجة، أنّ إسرائيل لن تقبل بإقامة دولة فلسطينية وفق القرارات الأممية، وهو الأمر الذي صرّح به نتنياهو أخيراً، وبات كالشمس التي لا تغطّى بغربال. وبالتالي، أصبح التمسّك الأردني بالتسوية السلمية في الخطاب الديبلوماسي خارج السياق والزمن تماماً، ما يطرح سؤال اليوم التالي لانهيار العملية السلمية ونهاية الرهان على نتائجها؟
هذا السؤال هو الذي هيمن على نقاشات مهمة ومغلقة، عقدها معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مركز مسارات الفلسطيني (عمّان 27 - 28 مايو/ أيار 2023)، وشاركت في الورشة (خضعت لقواعد الكتمان والسرية) نخبة من فلسطينيي 1948 و1967 ونخبة سياسية أردنية، تباحثوا جميعاً في سؤال ما بعد العملية السلمية أولاً، وثانياً في الخيارات الفلسطينية، وثالثاً في انعكاسات ذلك على الأمن الوطني الأردني والسيناريوهات المتوقعة.
ثم عقد المعهد ورشة خاصة لنخبة سياسية أردنية (عمّان، يونيو/ حزيران 2023)، لمناقشة الأسئلة نفسها وخلاصات الورشة الأولى. وكان واضحاً من خلال الورشتين معاً أنّ هنالك خلاصات واقعية خطيرة، ليس فقط على صعيد نهاية مشروع التسوية وغياب الشريك الإسرائيلي، بل هيمنة مقاربة "صفقة القرن" على سياسات الإدارة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية (حتى ولو لم تتبنّ إدارة الرئيس بايدن رسمياً ما قدّمته إدارة ترامب)، والتشاؤم الشديد لدى النخب الفلسطينية من إمكانية المصالحة الفلسطينية بين حركتي حماس وفتح، وشعور فلسطينيي الـ48 أن هنالك مخططاً إسرائيلياً استراتيجياً للتخلص منهم، لحماية "يهودية الدولة"، وأخيراً حالة البؤس التي باتت عليها السلطة الفلسطينية والانفصال بينها وبين المشروع الكفاحي الوطني الفلسطيني.
في المحصلة، لم تبد هنالك خيارات استراتيجية فلسطينية توافقية واقعية قدّمها المشاركون؛ فحلّ الدولتين انتهى، ومقاربة الحقوق وحل الدولة الواحدة وإن كان يساعد في تعزيز الخطاب السياسي الفلسطيني، بخاصة في الأوساط الأوروبية والغربية، وهو السيناريو الذي يلعب على الأرض نفسها مع المشروع الإسرائيلي، ما يجعله أكثر تأثيراً (وفقاً لمن ينادون به من نخب فلسطينية وعربية وأردنية)، إلّا أنّ من يطالبون به يعترفون بأنّه حل تاريخي وليس سياسياً آنياً (بمعنى أن مآلات الأمور ستذهب نحو هذه الشروط الواقعية تحت إصرار إسرائيل على عدم إقامة دولة فلسطينية)، ويصفه بعضهم بـ"حال الدولة الواحدة". أما المقاومة، بأشكالها السلمية والمسلحة، فلها شروط وديناميكيات وروافع سياسية غير متوفرة مع الوضع الفلسطيني الراهن.
لعلّ الحدّ الأدنى من التوافق الذي دافعت عنه النخب الفلسطينية والأردنية العمل على دعم الصمود الفلسطيني على الأرض، وبناء حصانات للفلسطينيين من خطر الترانسفير (التهجير)، الذي يشكّل تهديداً للأمن الوطني الأردني على أكثر من صعيد، فالتحدّي الحقيقي، وفقاً لأغلب المشاركين، هو القدرة على الصمود والتمسّك في الأرض، سواء الـ48 أو الـ67، لأنّ الخيار الإسرائيلي الاستراتيجي يتمثّل في "الترانسفير" والكانتونات المعزولة.
ثمّة تحليل آخر بالمناسبة قدّمه أحمد جميل عزم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر (في ندوة سابقة له في معهد السياسة والمجتمع)، يتمثل بتوالد ديناميكيات اقتصادية جديدة على الأرض، جوهرها اقتصادي، لكن تداعياتها سياسية واجتماعية وثقافية، وهو ما أطلق عليه عزم خصخصة الاحتلال وأتمتته، من خلال الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين التي باتت تعمل ليس فقط في إسرائيل، بل حتى لصالح شركات إسرائيلية، بخاصة في قطاع التكنولوجيا، وهي الديناميكيات التي تخدم ضمنياً صفقة القرن والتطبيع الإقليمي الذي أتت به إدارة ترامب، وما زالت هذه المفاهيم هي التي تحكم سياسات الإدارة الجديدة.
في ضوء ذلك، ما هي الخيارات الاستراتيجية الأردنية؟ المقاربة الراهنة التي تهتم بالفعل الديبلوماسي والتركيز على حلّ الدولتين، ورعاية الأماكن المقدسة في القدس الشريف، على قاعدة أنّ الدور الأردني ثانوي، ويتمثل بدعم السلطة الفلسطينية فقط، أم الانكفاء وأخذ مسافة فاصلة عن الملف الفلسطيني لما له من كلفة كبيرة وعالية، سواء في الدخول بصدام مع الإسرائيليين ومع النفوذ الصهيوني، أو السير في ركاب "المشروع الإقليمي" والتطبيع الاقتصادي؟ أم الانتقال إلى مقاربة جديدة مختلفة والاشتباك بدرجة أكبر مع المسألة الفلسطينية، وهو ما نطلق عليه Paradigm Shifting؟ والخيارات الثلاثة تحملها نخب سياسية أردنية، وتتموضع حول خطاب سياسي له حجّيته ومفاهيمه ومنطلقاته في ترسيم العلاقات الأردنية الفلسطينية، وفي تعريف (أو إعادة تعريف) الأمن الوطني الأردني تجاه المسألة الفلسطينية ومدى تداخلها وانفصالها عن الاعتبارات الاستراتيجية الأردنية.
لو تجاوزنا مناقشة الخيارات الثلاثة الأولى، واتجهنا نحو المقاربة الجديدة، وهي التي تمثّل مدخلا استراتيجيا لما يطلق عليه بعضهم الخطة "ب" أردنياً لليوم التالي لنهاية العملية السلمية. وتقوم هذه المقاربة على نظرية رئيسية، أنّ الجيوبولتيك والوقائع التاريخية والحقائق الاجتماعية والسياسية والثقافية تفرض جميعاً على الأردن دوراً رئيسياً ومحورياً في الملف الفلسطيني، بخاصة في الضفة الغربية، وهو دور خارج السياق أو الإطار الذي يخيف أردنيين كثيرين، ويدفع نحوه اليمين الإسرائيلي، والمقصود هنا الخيار الأردني (عودة لتدخل أردني في الضفة الغربية في الديمغرافيا وليس الجغرافيا)، وهو أمر مرفوض فلسطينياً وأردنياً، شعبياً ورسمياً. بل يتمثل الدور المقصود في الاشتباك بدرجة أكبر مع المعادلة الفلسطينية والتخلي عن التحفّظ الأردني في التعامل مع القوى الفلسطينية والشخصيات المتعدّدة.
المطلوب أردنياً أن نتحرّر من فكرة أننا نتعامل مع السلطة الفلسطينية فقط، لأنّ السلطة في أضعف أوضاعها الشرعية والقانونية، ولا يجوز أن يبقى الأردن مصرّاً على النأي بنفسه عن فتح ملف العلاقة مع القوى الفلسطينية الأخرى والمصالحة الفلسطينية تحت بند أنّه شأن فلسطيني داخلي أو ملفّ مصري، فكل هذه الفرضيات اختُرعت سابقاً لتتعامل مع إحداثياتٍ لم تعد موجودة سياسياً، فمسائل الضفة الغربية والقدس والحدود والوضع الفلسطيني تمسّ صميم الأمن الوطني الأردني، وعلى الأردن أن يتحرّك لحماية أمنة وتعزيز مصالحه الاستراتيجية والحيوية مع الفلسطينيين.
من هذا المنطلق، دفع اتجاه في أوساط النخب الأردنية إلى تقديم مقاربةٍ تقوم على الإقرار والاعتراف بعجز التسوية السلمية وباستمرار الوضع الراهن، وإدراك مرامي المشروع الإسرائيلي وأعراضه، من عزل الفلسطينيين داخل كانتونات وسلطة فاشلة، والتخلّص التدريجي وربما استثمار أزمات خطيرة للقيام بعملية الترانسفير، وهذا وذاك يدفع مطبخ القرار الأردني إلى العودة إلى مقاربات "إدارة الصراع" بدلاً من "حلّه" غير الموجود أصلاً!
ماذا تعني إدارة الصراع؟ تعني أنّ الرهان الاستراتيجي الأردني على العملية السلمية لم يعد قائماً واقعياً (ذلك لا يتناقض مع تمسّك الأردن ديبلوماسياً بالخيار السلمي وبقرارات الأمم المتحدة). ويعني ثانياً الانتقال نحو التوغل الإيجابي في المعادلة الفلسطينية والانفتاح على القوى المختلفة، سياسياً واجتماعياً، التي تقبل العملية السلمية والتي ترفضها، وعلى الشخصيات وعلى فتح قنوات أكثر جدّية وواقعية مع القوى المتعدّدة، والاقتراب أكثر من ملفّ السلطة وخلافة محمود عبّاس، لما له علاقة قوية مع الملف الأردني، والتخلي عن الدعوة الدائمة غير المقنعة إلى التهدئة (تلك التي أدّت إلى اجتماعات العقبة وشرم الشيخ)، لأنّها لا تخدم إلّا الإسرائيليين.
العودة إلى مفاهيم إدارة الصراع هي انتقال إلى المقاربة الواقعية الحقيقية في ضوء فشل التسوية السلمية وعدم الاستمرار في بيع الأوهام المتعلقة بها أو شرائها، بمعنى الاعتراف أولاً بالواقع، ثم البحث عن خيارات استراتيجية عملية لا تذهب نحو السيناريوهات الراديكالية، ولا تقبل أيضاً بخيارات ستؤدّي، في نهاية اليوم، إلى حلّ القضية على حساب الأردنيين والفلسطينيين.
(العربي الجديد)