اطباء بالسخرة .. لماذا الاختباء باسماء مستعارة !!
نشر جو ٢٤ تقريرا وافيا شافيا حول مئات الأطباء المتدربين "الامتياز" في القطاع الصحي العام والخاص ، الذين يعملون بلا أجر وفي احسن الأحوال بأجر أقل من الحد الأدنى المُحدد من الحكومة والبالغ 260 دينارا ، دون شمولهم بالضمان الاجتماعي .
ومسألة اطباء " الامتياز " قديمة جديدة ، وتطفو على السطح ، بشكل واضح ،وتأخذ بعدا اعلاميا ، في الغالب ، كلما توقفت وزارة الصحة عن صرف ما يسمى "المكافأة " للمتدربين لديها ، تحت ذرائع مختلفة ، ويجب أن لا ننسى أو نتغاضى عن القطاعات الأخرى التي يتدرب لديها الاطباء دون أجر ، فالأمر لا يقتصر على وزارة الصحة .
ويشير نقيب الأطباء، الدكتور زياد الزعبي، الى وجود (2500) طبيب في مخزون ديوان الخدمة المدنية ، مازالوا عاطلين عن العمل، فهل أصبحت مهنة الطب ، على قدسيتها خاضعة لمبدأ السوق، وقاعدته الرئيسة ، العرض والطلب !! ولا يخفى تأثيرات البطالة على مسألة الاجور .
على اي حال ، وبالعودة الى التقرير ، فانه يكشف بوضوح شديد ، حالة الاذعان القصري للاطباء ، لانهاء متطلبات مزاولة المهنة ، إذ ان على الراغبين في الالتحاق بالتدريب لدى وزارة الصحة ، التوقيع على تعهد خطي بعدم المطالبة بأي مبلغ مالي خلال مدة التدريب "الامتياز" ، وبالتالي ليس من خيار آخر أمامهم.
ويُظهر التقرير ، غياب ، او لنكن اكثر دقة في التوصيف ، تغييب القوانين الناظمة لتدريب الاطباء وغيرهم كالمحامين ، وكأن هؤلاء ،خارج نطاق القانون ، ومنظومة إدارة شؤون الدولة !!.
وعلى الرغم من أهمية كل هذه القضايا ، وضرورة طرحها على بساط البحث ، وفتح حوار موضوعي حولها ، فانني اتجاوزها للحديث في مسألة اعتقد انها لا تقل أهمية، كشف عنها التقرير ، وتتعلق بالخوف والرعب لدى الاطباء وحتى المحامين ، من التعبير عن الرأي بشفافية وأسماء صريحة ، فما هي القصة ،وأي دلالات وابعاد تكشفها ؟؟.
لم يكشف التقرير عن أسماء الاطباء الصريحة ، واستخدم عوضا عنها اسماء مستعارة ، وارى في ذلك حرمانا لحق أصيل كفله الدستور ، وهو الحق في التعبير عن الرأي بحرية ، وأعتقد أن حرمان الاطباء من هذا الحق ، أكثر خطورة من الحرمان المالي الذي يتعرضون له ، لما ينطوي عليه من أبعاد ودلالات، عميقة وجوهرية .
ونقرأ في التقرير ، وبين السطور حرمانا أشد فتكا بالمجتمع من الحرمان المالي وهضم الحقوق ، انه صرخة الاطباء ، وغيرهم ، بصمت من خلف ستار ، وبأسماء مستعارة ، فضل المتدربون الاختباء خلفها ، خوفا - ربما - من عواقب غير محمودة ، قد تطالهم اذا ما افصحوا عن أسمائهم الصريحة .
نعم ، ارعبني ، واقلقني بشدة ، لجوء اطباء " الامتياز " للحديث حول معاناتهم باسماء مستعارة ، وكانهم يرتكبون إثما أو واحدة من " الكبائر " في مجتمع المدينة الفاضلة !!.
وداهمتني الأسئلة، لماذا يخشى الاطباء الحديث بأسمائهم الصريحة ؟؟ هل فعلا هناك تهديد واضح وصريح إن هم كشفوا عن أسمائهم ومواقع عملهم ؟؟ أم انهم يخشون عدم الحصول على التدريب المناسب والحرمان منه ، إنتقاما وعقوبة ؟؟ كيف حسبها الاطباء حتى لاذوا خلف اسماء مستعارة ؟؟ ام أن المسألة أعمق؟؟.
وبغض النظر عن السبب المباشر ، الذي حدا بالاطباء للتخفي، اعتقد جازما ، أن السبب الحقيقي العميق في تفسير ذلك ،يمكن رده الى غياب الحرية ، والتربية المجتمعية المرتجفة في غياب أجواء الحوار في ظل انعدام البيئة الديمقراطية ، وتغييب واغتيال الحق الدستوري الاصيل في التعبير عن الرأي.
ويرعبني أكثر أن الخوف يسكن قلوب فئة وشريحة اجتماعية ، هي الأكثر تعليما، ويفترض انها الاقدر على التعبير عن الاوجاع ، كيف لا وهم من اطلقنا عليهم ذات ايام مضت لقب " حكيم " إنهم الاطباء !! فهل تغير الحال ؟! .
يبدو أن الحال قد تغير الى حد كبير صادم ، لدرجة أن صوت الحق ، والمنافحون عن الدفاع عن الحق في التعبير عن الراي ، واقصد هنا طليعة المجتمع من الاطباء والحقوقيين ، الذين باتوا -بعضهم ‐ يتحدثون من خلف ستار ، ويخفون أسمائهم الحقيقية عند الحديث لوسائل الاعلام عن همومهم ومعاناتهم ، فكيف لهؤلاء أن يطالبوا بالعدالة والحقوق ، وهم عاجزون عن الدفاع عن حقوقهم بالاسماء الصريحة ؟!.
واتحدث هنا تحديدا عن المحامين ، فاحدهم وهو محام أنهى مدة تدريبه قبل عدة شهور ، وهو قاب قوسين او أدنى من ممارسة المهنة النبيلة ، لجأ في التقرير الى استخدام اسمه الأول ، عندما تحدث عن اوضاع المحامين المتدربين ، وانهم لا يتقاضون أجورا طيلة فترة تدريبهم.
لست ادري كيف وصل مجتمعنا الى هذا الدرك الأسفل من الخوف والأحجام عن التعبير عن الرأي بحرية ، والحديث هنا خارج نطاق السياسة ، وفي شأن مطلبي بسيط ، فلماذا كل هذا الخوف ؟! .
قبل مدة ، قال لي أحد الأصدقاء على صفحتي (face book) ، انه يقرأ مقالاتي ، وانها تعجبه ، لكنه اعتذر لعدم التعليق أو التعبير ب ( like ) ، قلت له لا بأس لا انشر المقالات على صفحتي الخاصة ، بعد نشرها على الملأ عبر الصحافة الالكترونية ، لحصد " اللايكات " ، لكن أود ان اقف على السبب وراء عدم التعليق أو إبدأ "الإعجاب " ؟؟ .
وللحقيقة صدمتني أجابة الصديق ، ومثله كثر ، فقد قال : " انت تكتب عن وزارة الصحة منتقدا في الغالب ادائها ، وتعلم أن ابني يعمل طبيبا فيها " !! . وبالمناسبة ليس هذا الصديق وحده من يحجم عن التفاعل مع المقالات الناقدة لاداء الحكومة ، فمثله عديد من الأصدقاء، الذين يلجاؤون للتواصل ، بعيدا عن أعين الرقيب ، على الخاص ، فهل فعلا هناك رقيب ، أم ان الأخير، ليس الا وهما ، يعشش في ذاكرة جمعية صنعتها سنوات الخوف ، والاستماع الى اذاعة صوت العرب ، في غرف مغلقة محاطة بمخبرين بأبخس الأثمان؟!!.