العنف في مجتمعنا ظاهرة تستحق الدراسة
قبل عقدين من الزمن نشرت تحت هذا العنوان مقالة في صحيفة الرأي محذرا من العنف الذي " دخل بيوتنا من أوسع الابواب ويعيش ويعشش معنا وفينا ، رغم انوفنا " .
والحديث انذاك كان منصبا على خطورة ما تعرضة شاشة التلفاز من برامج يشكل العنف محورها، ويتشربه الاطفال ، منذ نعومة اظفارهم ، بحيث يصبح مشهد عاديا مألوفا ، ونمطا حياتيا ، ليس مرفوضا ، أو ممقوتا ، لا بل انه مقبولا ،وقابلا للممارسة اليومية ، ومرغوبا الى حد كبير ، في سن المراهقة، وما بعدها بحكم الاعتياد ، والادمان على مشهد العنف .
انذاك ، قبل عقدين من الزمن ، كتبت بالنص من وحي مشاهدة اطفالي وتفاعلهم مع ما يشاهدون من برامج " الطفلة ابنة الأحد عشر عاما تستمتع ايما استمتاع بالمصارعة الحرة على الطريقة الأمريكية ولا تزعجها دماء الثيران المنسكبة من المصارعين على الحلبة .. وهديل ابنة الخمس سنوات لم تعد تستهويها افلام الكرتون وخطفتهاقناة الأفلام بما تبثه من مشاهد قتل وسفك للدماء ، يتابعها سيف ابن الاربع سنوات من تحت اللحاف ، وقد بدأ يعتاد هذه المشاهد ،ويدمن عليها ..الخ ".
ابنائي ، أطفال الأمس، هم جيل الشباب اليوم ، اصغرهم من كان يتابع مشهد العنف من تحت اللحاف ، يعيش حالة العنف ويعاينها، ويشاهد بعضها في أحداث تتكرر يوميا حوله في الشارع واماكن العمل والاحياء التي يعيش في كنفها، ناهيك عن القتل ، ليس بعيدا ، على أرض فلسطين المحتلة ، وقريبا من بلدته على على الحدود الشمالية في سوريا وعلى الحدود الشرقية في العراق ، وبعدهما في اليمن والسودان ، والحبل على الجرار ، واملنا الا يحدث ذلك ، في اي مكان آخر ، وأن يعم السلام ، فلسنا دعاة حرب ودمار .
سيفا ، ومثله اقرانة من فئة الشباب ، لم يعودوا مجرد مشاهدين للعنف عن بعد أو من خلال الشاشة ، انهم اليوم يعيشون ويترعرعون في حضن العنف ويمارسونه ، بشتى الاشكال ، دون وعي ، بل انهم يتفاعلون معه بفرح ، وهم باتوا يسعون الى " الاكشن " ويهللون له ، أينما وقع .
وبعد ، وهو الاخطر ، وما كنا نخشاه ، وعبرنا عنه قبل عقدين من الزمن ، لقد تغلغل العنف بين ظهرانينا ، واطفال الأمس، هم أبطال العنف اليوم ، وصانعوه ، وضحاياه أيضا ، وجولة سريعة على العناوين ،التي تحفل بها ، وسائل إعلامنا، تؤكد هذه الحقيقة .
نعم ، بات القتل والعنف عنوانا عريضا ، في كل لحظة ، من شروق الشمس حتى غروبها ، على مدار الاسبوع والشهر والسنة ، دون أن تهتز لنا شعرة ، ونتابع المشهد بدم بارد ، ولامبالاة ساذجة ، ونغرق في بحر من الدم ، دون أن يرمش لنا جفن ، وكأن الأمر لا يعنينا .
ولنأخذ، جولة سريعة في عناوين يومياتنا، فماذا نقرأ في أولى صفحاتها: "إنتحار شاب من فوق جسر عبدون "، "العثور على عشريني منتحرا" ، "وفاة اربعيني طعنا "، "عروس تنهي حياتها شنقا "، ستيني يلقى حتفه ضربا من جاره "، " اربعيني يطعن زوجته"، وفاة عشريني طعنا في مشاجرة "، مجموعة من العاطلين عن العمل تهدد بالانتحار الجماعي "، "ابناء يطردون والدتهم من المنزل ".
هذه العناوين المرعبة ، حقيقية وليست من نسج الخيال ، وحدثت في مجتمعنا الأردني، وهي ليست الا غيضا من فيض ، مما تحفل به وسائل إعلامنا، صبحا ومساء ، ولا يكاد يمر يوم ، دون أن ننام على جريمة بشعة ونصحو على أخرى أكثر بشاعة ، فماذا اصابنا ، اهي عين حسد وغيرة طرقتنا ؟! .
تستدعي ظاهرة العنف والقتل ، وتناميها بابشع الصور ، الالتفات اليها بجدية ، ودراستها بشمولية وعمق ، ولا يكفي الحديث الانطباعي الذاتي والعمومي لتفسيرها وتشخيصها ، فذلك لن يفضي الى فهمها وعلاجها .
وعلى حد علمي انه لم يقم اي فرد أو جهة مختصة بمثل هذه الدراسة ، فهل سأجد نفسي ، بعد عقدين آخرين من الزمن مضطرا، للكتابة تحت ذات العنوان ،" العنف في مجتمعنا ظاهرة تحتاج إلى دراسة" .
الامل ، كل الامل ، أن يخرج مجتمعنا ، والبشرية جمعاء من دائرة العنف والقتل والتدمير وانتهاك حقوق الإنسان، فقد اتعبتنا قوى الشر ، وصانعو الحروب والفتن والقلاقل ، وقبلهم وبعدهم دعاة العنف ومسوقوه ، وقد اصبح السلعة الاوسع رواجا !!.