في الذكرى 65 لثورة 14 تموز 1958
في 4 شباط 1958 قامت الوحدة بين سورية ومصر، وأعلنت الجمهورية العربية المتحدة. ولم تقابل الحكومتان العراقية والأردنية هذه الوحدة بارتياح، على أساس أن وحدة سوريا مع العراق والأردن هي أقرب إلى الصواب من وحدتها مع مصر لأسباب استراتيجية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، فضلا عن أن تردي العلاقات بين الطرفين في تلك الحقبة ساعد على الاعتقاد بأن وحدة سوريا ومصر كانت موجهة ضد مصالح العراق وسياسته الخارجية.
شكل قيام الجمهورية العربية المتحدة في شباط 1958، تهديدا معلنا للنظام الملكي ونوري السعيد، ودفع بنفوذ عبد الناصر إلى الحدود العراقية والأردنية، ليبدأ نوري السعيد محادثات مع الأردن، وفي 11 شباط 1958 وصل الملك فيصل إلى عمان، وتم الاتفاق على إعلان الاتحاد العربي بين العراق والأردن في 14 شباط، وبادر الرئيس عبد الناصر بالإبراق إلى الملك فيصل يهنئه بقيام الاتحاد العربي، كخطوة تقرب العرب من الوحدة الكبرى.
جيش وسياسة
في هذه الفترة كانت القوات المسلحة تعد العدة لتحول في مجرى البلاد، وكان لأحزاب الجبهة الوطنية المتحدة في العراق علاقات مع القوات المسلحة، إضافة لوجود ضباط يعملون بشكل مستقل عن الأحزاب، كما تركت أزمة السويس 1956 أثرها الكبير في هذه الأوساط، ما دفع عدد كبير من الضباط للانضواء ضمن تنظيم الضباط الأحرار.ِ
انتقل أعضاء اللجنة العليا للتنظيم إلى التخطيط للانقلاب الذي سيضعهم على رأس السلطة. وقررت اللجنة أن أهم عنصر في التخطيط لأي انقلاب عسكري هو أن يكون قادة الوحدات العسكرية الرئيسة إما جزءا من التنظيم أو متعاطفين مع أهدافه. وفي سنة 1957 رأس العميد عبد الكريم قاسم (1914 – 1963) رئاسة اللجنة العليا للتنظيم، وأصبح العقيد عبد السلام عارف (1921 – 1966) صلة الوصل مع الضباط الأصغر سنا. وفي أوائل عام 1958 توصل الضباط الأحرار إلى الاتفاق على أن العراق يجب أن يصبح جمهورية، وكان ينظر إلى النخبة السياسية الحاكمة على أنها موالية وتابعة للغرب. كما اتفقوا على أن يحتل ضباط الجيش جميع المناصب العليا في الإدارة، فيما يحتل المدنيون المناصب الأدنى رتبة. وستكرس سلطة الضباط في مجلس أطلق عليه "مجلس قيادة الثورة".
جاءت أحداث 14 تموز في الوقت الذي كان الصراع على أشده في لبنان بين القوى المعارضة بإسناد من الجمهورية العربية المتحدة، والقوى الموالية بإسناد من "الاتحاد العربي، وحلف بغداد والدول الغربية، وفي الوقت الذي كان من المقرر أن يعقد فيه اجتماع قمة للدول الإسلامية في حلف بغداد في استانبول في يوم 14 تموز نفسه، بحضور الملك فيصل، وشاه ايران محمد رضا بهلوي (1919 – 1980)، والرئيس الباكستاني محمد خان، إضافة لتركيا، لبحث تطورات الأوضاع في المنطقة العربية عامة ولبنان خاصة، وربما التدخل فيها.
في الأسبوع الثاني من شهر تموز 1958 وافقت الحكومة العراقية بطلب من الملك حسين على إرسال أحد ألوية الجيش كقوة عسكرية احتياطية لتستقر شمال المملكة، فقد خشي نوري السعيد من الأزمة المتصاعدة في لبنان، ومن خصومته مع الجمهورية العربية المتحدة، فقرر إرسال وحدات من الجيش العراقي إلى الحدود الأردنية لتقديم الدعم للأردن – الشريك الأضعف في الاتحاد - إن دعت الحاجة، فوجد عبد الكريم قاسم وحليفه عبد السلام عارف أن الفرصة أصبحت مؤاتية.
كان العقيد عبد السلام عارف يقود اللواء العشرين المتوجه إلى الأردن، فاتفق مع عبد الكريم قاسم قائد اللواء التاسع عشر المتمركز في معسكر المنصور في ضواحي بغداد، على أن يتجه اللواء العشرين لاحتلال بغداد بدلا من التوجه إلى الأردن.
كان القرار الذي اتفق عليه هو إزالة أعمدة النظام الثلاثة بضربة واحدة : الملك فيصل الثاني، والذي كان مهما بوصفه رمزا لنواة مقاومة محتملة، وولي العهد عبد الاله الذي كان موضع اعتماد ابن أخته ومرشده، ونوري السعيد رئيس وزراء الاتحاد العربي الذي اعتبر المسؤول الأول والممثل الحقيقي لكل سياسات الدولة، وهو الذي انصب عليه حقد المؤتمرين.
انذار مبكر
كان الملك حسين قد وصلته معلومات عن مؤامرة تدبر لانقلاب في العراق والأردن، وأخبر رئيس هيئة الأركان العراقي رفيق عارف قبل أيام عن هذا الامر. وكان جواب عارف أن الوضع في العراق آمن، وأن على الملك الانتباه من جيشه!.
أعلن في الأردن عن احباط محاولة انقلابية، وتم إلقاء القبض على محمود الروسان (1922 – 1980) الذي كان ينوي مع بعض ضباط الجيش القيام بانقلاب متزامن مع التحرك في بغداد. وكان الروسان من الضباط الذين عملوا في حقل المعارضة الوطنية داخل الجيش.
عند صدور الأمر لواحدات الجيش بالتحرك إلى الحدود الغربية، حول عبد السلام عارف قوته وتلك التي يقودها ضباط حلفاء إلى العاصمة، واحتلوا جميع المباني الاستراتيجية في بغداد، بما فيها دار الإذاعة التي بثت في السادسة صباحا البيان رقم (1)، بصوت عبد السلام عارف، وأعلن نبأ مقتل الأسرة الملكة وولادة الجمهورية العراقية.
المذبحة
اقتحم العسكريون "قصر الرحاب"، واستسلم الحرس الملكي المتمركز في القصر، وخرج الملك فيصل الثاني وولي العهد عبد الإله وعدد من أفراد الأسرة الملكية، وفي غضون دقائق قتلوا جميعا.
لم ينج من المذبحة سوى زوجة عبدالاله التي ظنها مقتحمو القصر قد ماتت. وفيما بعد تم دفن فيصل الثاني باحترام تقديرا لأبيه الملك غازي. أما جثة عبدالاله فقد سلمها العسكريون إلى غوغاء الشارع الذين جروها في الطرقات ثم قاموا بتقطيعها وعلقوا ما بقي منها على باب وزارة الدفاع. وكان هذا الفعل تذكيرا بما فعله عبدالاله عندما أعدم قادة انقلاب رشيد الكيلاني عام 1941، وعلق جثثهم على باب وزارة الدفاع. أما رئيس وزراء حكومة الاتحاد نوري السعيد، فقد تمكن من الفرار من الانقلابيين، ويبدو أنه كان يعول على فشل الثورة في الداخل، أو توقع تدخل الأردن، لأن الملك حسين أصبح بعد مقتل الملك فيصل رئيس دولة الاتحاد العربي. ولكن بعد يومين عثر عليه الغوغاء متنكرا في زي امرأة، فحاول إبعادهم بمسدسه، ولكنهم قتلوه، وقاموا بسحله، ثم دفنوه، وعادوا وأخرجوا الجثة وقطعوها.
سقط في مذبحة قصر الرحاب كل من: الملك فيصل الثاني ابن الملك غازي، والملكة نفيسة ابنة عبدالاله، والأمير عبدالاله بن الملك علي، والأميرة عبدية بنت الملك علي. ولم ينج من هذه المجزرة إلا القليل من المقربين من الأسرة الملكة، وعلى رأسهم الأميرة بديعة ابنة الملك علي بن الحسين، وأولادها الثلاثة محمد وعبد الله وعلي، وزوجها الشريف حسين بن علي، والذين كانوا لحظة الانقلاب في منزلهم، وصالحة ابنة الشريف حسين بن علي، والتي كانت في استانبول، والأميرة راجحة ابنة فيصل الأول، وابنتيها حزيمة ونفيسة، وزوجها الطيار عبدالجبار محمود، الذين كانوا في لندن للاصطياف، وزوجة الأمير عبدالاله هيام الحبيب.
تمكنت الأميرة بديعة (توفيت 2020) من الفرار مع أبنائها وزوجها مُتخفين، وقد روت أحداث هذه المجزرة المأساوية، وهروبها لعدة مناطق قبل لجوئها إلى السفارة السعودية في مذكراتها بعنوان "مذكرات وريثة العروش".
صادف وقوع الثورة تواجد وفد أردني مؤلف من : ابراهيم هاشم، سليمان طوقان، خلوصي الخيري، واللواء صادق الشرع، في عمل يتعلق بالاتحاد العربي، فهاجمت الجماهير مقر إقامتهم في أحد فنادق بغداد، وقتلت الشيخ المسن ابراهيم هاشم نائب رئيس وزراء الاتحاد، وسليمان طوقان وزير دفاع الاتحاد، ودبلوماسي أردني واحد، وضابط في الجيش الأردني. وجرح خلوصي الخيري، أما الشرع فقد نجا بحماية من مرافقه العسكري العراقي.
مواقف وردود فعل
عندما سمع الملك حسين نبأ حدوث الانقلاب في العراق، تسلم منصب رئيس الاتحاد العربي، وباشر ممارسة سلطاته وفق أحكام دستور الاتحاد، وطالب الشعب الأردني المحافظة على الهدوء، وأن ينصرف كل فرد إلى أعماله وهو مطمئن.
جرت الاستعدادات في الأردن للتدخل ضد العراق، فقد غضب الملك حسين لمقتل العائلة المالكة والوزراء الأردنيين، وجهز حملة عسكرية بقيادة الشريف حسين بن ناصر (1906 – 1982)، وطلب الحماية الجوية من بريطانيا. وحاول الملك حسين ضم قادة القوة العراقية التي كانت تتواجد في الأردن إلى الجيش العربي، إلا أن هؤلاء القادة رفضوا الطلب، وطالبوا بالعودة إلى العراق، بعد تلقيهم أمرا بالعودة مذاعا من راديو بغداد، وتحركت القوة نحو الحدود العراقية بعد أن قطع الضباط أسلاك الهاتف بين عمان ووحداتهم، لمنع التأثير على الضباط والجنود العراقيين. في حين أعلن مندوب العراق في الأمم المتحدة انه سوف يستلم أوامره من عمان وليس من بغداد.
جاء في خطاب للملك حسين محذرا العراقيين من الفئة التي قامت بالثورة قائلا: ".. ننظر إلى عراقنا العظيم كقلعة صامدة ثابتة لا تهن لها عزيمة ولا تلين لها قناة، وننظر إلى جيش العراق الباسل كفيلق للعروبة كلها..".
وفي 15 تموز اتخذت حكومة الثورة قرارا بالانسحاب من الاتحاد العربي، وإلغاء كل القرارات والإجراءات التي اتخذت بموجبه، وعلل قرار الانسحاب بأن "الاتحاد لم يكن اتحادا حقيقيا يهدف إلى مصلحة شعبي البلدين".
وبناء على انسحاب حكومة الثورة من الاتحاد العربي أصدر الملك حسين في 12 آب 1958 مرسوما بحل الاتحاد العربي. وفي تشرين الأول 1960 أعلن البرلمان الأردني قرار الاعتراف بالنظام الجديد في العراق بعد اعتراف عدد من الدول العربية والغربية به.
أنهت الثورة حقبة حافلة من تاريخ الدولة العراقية، الذي سيطرت عليه بريطانيا، والأسرة الهاشمية، والموظفون العثمانيون السابقون، فضلا عن ملاك الأراضي. وكان الترحيب بالثورة كبيرا في صفوف الشعب العراقي، الذي رحب بقانون الإصلاح الزراعي وإلغاء الإقطاع، واعتبر إلغاء النظام الملكي المتهم بالتحالف مع الغرب خطوة إلى الأمام.
كان للحركة أصداء واسعة على المستويين العربي والدولي، لأنها قلبت موازين القوى في المنطقة العربية. وقد بادرت الجمهورية العربية المتحدة إلى إعلان تأييدها الفوري لها، في حين أصيبت العواصم العربية المحافظة بالوجوم، وأعلن الحداد فيها وفي كل من تركيا وايران لمقتل أفراد العائلة المالكة وبعض السياسيين.
وفي الولايات المتحدة اعترف مدير المخابرات الأمريكية (ألن دالاس ) بأن مخابراته لم يكن لديها أية معلومات مسبقة عن الثورة، وفي اسرائيل أبلغ (بن غوريون) الكنيست بضرورة طلب الحصول على مزيد من الأسلحة الغربية، لتتمكن من مواجهة حركة الوحدة العربية التي لا بد أن تقوى بعد ثورة العراق. أما الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز فقد رحبت بالثورة، واعتبرتها نجاح لسياسة الحياد الإيجابي، وهزيمة لسياسة الأحلاف والتبعية للغرب.
نزلت قوات مشاة البحرية الأمريكية في لبنان في 15 تموز، وقوات المظليين البريطانية في عمان في 17 تموز، وفي تركيا كان (عدنان مندريس) رئيس الوزراء متحمسا لمهاجمة العراق، وطلب من الولايات المتحدة أن تسمح له بالهجوم على العراق. وطلب (سلوين لويد) وزير الخارجية البريطاني من الأمريكان مساندة احتلال بريطانيا للكويت وقطر.
تأمل وتقييم
كان العنف السياسي سمة من سمات العراق منذ القرون الأولى للإسلام، وحتى بعد مرحلة سقوط الدولة العثمانية عام 1918. وبعد الثورة العراقية 1958 وقعت مجزرة الحكم الهاشمي في بغداد، وهي ليست غريبة عن تاريخ العراق الذي شهد قبل 1300 عام معركة كربلاء بين الجيش الأموي والحسين بن علي.
إذا وضعنا أخطاء العهد الملكي جانبا، فإن الفترة الممتدة من عام 1921 إلى 1958 كانت نسبيا أفضل في تاريخ العراق في القرن العشرين سياسيا واجتماعيا؛ ففي العهد الملكي كانت جميع الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية ممثلة في البرلمان، وكانت المعارضة تنتقد النظام السياسي والحكومة من دون أن تخشى انتقام السلطة أو معاقبتها. كما تمتع العراق بصحافة حية عندما كانت تطبع في بغداد والبصرة حوالي 25 صحيفة.
بدأت هذه الحقبة بثورة دموية كانت العائلة الهاشمية أول ضحاياها، وانتهت بحركة دموية كان عبد الكريم قاسم قائد ثورة تموز أول ضحاياها، فبعد حوالي أربع سنوات ونصف وفي 9 شباط 1963، قتل عبدالكريم قاسم في مبنى الإذاعة في بغداد على يد رفاقه. وفي 13 نيسان 1966 قتل عبد السلام عارف في حادثة تحطم مروحيته، لتبدأ فصول من التاريخ الدموي للعراق لم تنته بعد.
ويبدو أن نوري السعيد – أحد ضحايا الثورة - قد صدق ، بعد أن سمع من الإذاعة بمقتل الملك فيصل الثاني، حين قال: "كنت أتمنّى لو يقتل ولدي الوحيد ولا يقتل فيصل، وأخشى أن يفتح مقتل فيصل حسابًا في هذا البلد يمتد قرونًا".