مشروع قانون الجرائم الالكترونية تقييد لحريات التعبير وانتكاس للتحديث السياسي في الأردن
جدل واسع يسود الاوساط السياسية الرسمية والشعبية الاردنية وتراشق كبير بين فعاليات حزبية وقيادات في السلطتين التنفيذية والتشريعية على خلفية تقديم الحكومة لمشروع قانون جديد للجرائم الالكترونية.
محور هذا الجدل يتركز على مواد القانون 25،19،17،16،15 وهي مواد تنظر لها جهات وفعاليات شعبية وحزبية على انها مقيدة لحرية التعبير بما تحتويه من تغليظ لعقوبات ما يسمى بجرائم القدح ،والذم ،والتحقير، واغتيال الشخصية، وإثارة الفتنة،وترويج اخبار كاذبة.كل هذه التهم يصعب الوصول الى تعريف إجرائي محدد لها مما يترك الباب مفتوحا على مصرعيه لاستخدام هذه التهم من قبل الحكومة واذرعها من الاجهزة للنيل من المعارضين ،ناهيك عن كتم اصوات الناس في الرقابة على السلطات السياسية ونقدها ،وتشكيل رأي عام حول سلوكيات وقرارات يدور حولها لغط وشبهات فساد للقيادات السياسية والادارية. وفي الوقت الذي تتذرع الجهات التي تقترح وتدعم مشروع القانون الجديد بأنه يتصدى لقضايا تتعلق بالارهاب ،والدعارة ،والاتجار بالممنوعات والابتزاز، وانتهاك الخصوصيات فإن هذه الحجج لا تقنع كثيرا من الاردنيين الذين يرون ان هذه القضايا جميعها تعالجها قوانيين العقوبات وبعض القوانين الخاصة ،وان هذه المخالفات ليست هي المقصد الحقيقي للقوى التي تقف خلف هذا القانون وتؤيده.
انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اصبح صفة عالمية وكونية ولا يقتصر على الاردن او دولة بعينها، لا بل، اصبحت هذه الوسائل مستخدمة وبشكل واسع في اكثر دول العالم فقرا واستبدادا فما الذي تهدف اليه القيادات السياسية في الدولة الاردنية من وراء تجريم حريات التعبير والانتقاد ! الدستور الاردني ضمن حريات التعبير وضمن حرية مخاطبة السلطات العامة ،وضمن ايضا احترام حريات الاخرين وخصوصياتهم ،فكيف يتم تشريع قانون للجرائم الالكترونية على تهم يصعب تعريفها وتحديدها مثل القدح والذم والتحقير واغتيال الشخصية وإثارة الفتنة؟وما الذي يضمن استخدام هذه المواد للإيقاع بالمعارضين السياسيين ونشطاء التواصل الاجتماعي؟
يدعي بعض المؤيدين لتغليظ العقوبات على الجرائم الالكترونية أن ترويج او إرسال أو إعادة إرسال اخبار كاذبة يشكل جرائم بحق الاخرين سواء كانوا افراد أو مؤسسات عامة او خاصة وهنا نتسائل كيف يمكن للمواطن او حتى الصحفيين ان يصلوا الى المعلومات الحقيقية في ظل عدم تفعيل قانون الحق في الوصول الى المعلومات عن الأجهزة الرسمية ومن لديه شك في ذلك فليذهب ويحاول الحصول على معلومات من وزارة الداخلية أو من بعض الاجهزة الامنية او من الديوان الملكي او غيرها.وهنا نقول اذا كان الحصول على معلومات حقيقية من مصادرها غير متاح فإن الاحتمال بوجود مبالغات واحيانا مغالطات واشاعات في تناقل الاخبار والمعلومات يصبح واردا نتيجة لغياب المعلومة او حجبها من السلطات المعنية وليس نتيجة لنيات او مقاصد جرمية كما يشي بها القانون المقترح.
من جانب آخر فإن الدفع بمشروع قانون الجرائم الالكترونية الى مجلس النواب لا يستوي ولا يتسق مع توجهات الحكومة للتحديث السياسي لا بل فإن هذه الخطوة تفرغ برامج التحديث السياسي من مضمونها وتتجهزعلى حريات التعبير والانتقاد التي كفلها الدستور.ويمكن الذهاب لأبعد من ذلك بأن هذا القانون سيكون له انعكاسات وتداعيات سلبية على عمل الأحزاب والحياة الحزبية المتعثرة أصلا بفعل العراقيل التي تضعها الحكومة في سبيل ممارسات حزبية فاعلة.لم يعد يهم الاردنيين تصريحات الحكومة والتي تدعي تشجيعها للنشاط الحزبي فالمعطيات على الارض تشي بغير ذلك وما تفعله الحكومة ببعض الاحزاب المعارضة خير ذليل على ذلك.
لقد انبرى ولللأسف عدد من النواب والوزراء وبعض الشخصيات المحسوبة على الحكومة لتسويق هذا القانون والترويج له بحجة حماية الخصوصيات والذود عن الحياة الخاصة والسمعة الشخصية لبعض المسؤولين ،وقد فتحت اجهزة إعلام الدولة ومنصاتها وتلفزتها لهؤلاء الذي يستميتون في تلميع هذا القانون وبما يشبة رشح العطور الفاخرة على روائح غير طيبة تزكم الانوف ،وهنا يسجل بعض الاردنيون اندهاشهم وهم يرون نوابا ممثلون لهم يدافعون عن قوانين تكبت حريات مواطنيهم.
إن تهم القدح والذم والتحقير واغتيال الشخصية وإثارة الفتنة هي مجرد عناوين يمكن بكل سهولة استخدامها سياسيا للزج بالمعارضين والنشطاء السياسيين في السجون ،مما يسبب كبت الحريات وتكميم الافواة وانتشار رهاب العقوبات والغرامات بين الناس. نعم يحدث ارتكاب مثل هذه التهم في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة وفي المجالس وغيرها ولكن مقاضاة مرتكبي هذه التهم هي حق فردي للمتأثرين بها وليست حق عام يمكن للدولة ان تستخدمه متى وكيفما شاءت.
استعرضنا الخلفيات والتشريعات القانونية لتنظيم تهم الاساءة والتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دول ديمقراطية كثيرة ولم نشهد هذا الحماس والاندفاع التي تتبناه جهات نافذه في الدولة أو محسوبة. أعتقد أن البرلمان الاردني سيمرر هذا القانون بتعديلات طفيفة لا تؤثر على محتواه مما يضيف الى شكوك الأردنيين حول مدى استقلالية السلطة التشريعية في قرارتها.
المشهد السياسي الاردني يمر بمنعطف تاريخي خطير يضع مساعي التحديث السياسي بمساراته المختلفة، ولجان الاصلاح، وقوانين الانتخاب والاحزاب بمهب الريح ،ويسحب قانون الجرائم الالكترونية جذوة الاصلاح ويبطل مقاصده وغاياته التي رحب فيها كثيرا من الاردنيون. نكسة كبيرة تنتظر حريات التعبير والاصلاح السياسي في الاردن في حال إقرار هذا القانون الكاتم للحريات والمثبط للرقابة الشعبية ورقابة الرأي العام على أداء مؤسسات الدولة وقياداتها السياسية والادارية…..