حرب تلد أخرى (1 – 2)
في عام 1980 بدا وكأن العراق قد ضمن مستقبلا واعدا، حيث تدفقت أموال النفط، وبدأت تظهر نتائج المشاريع العمرانية والاقتصادية والتعليمية والصحية على السكان، وظهر العراق كدولة سائرة في اتجاه مستويات الدول المتقدمة، إلا أنه بدخوله الحرب مع ايران، أغرقت المنطقة في سلسلة حروب لم تنته منها حتى اليوم.
في 17 أيلول ‘أعلن صدام حسين إلغاء اتفاق الجزائر الموقع عام 1975 بين العراق وايران، والذي تضمن موافقة العراق على السيادة المشتركة لشط العرب، مقابل تخلي الشاه، وبالتالي أمريكا، عن دعم الأكراد في شمال العراق.
بدأت الحرب في 22 أيلول عندما اقتحمت القوات العراقية جبهة طولها 1500 كم ضد ايران، في توقيت بدا ملائما؛ فقد كان النظام الجديد في طهران قد قضى على الكوادر العسكرية الإيرانية، وقتل أو فصل أو سجن آلاف الضباط، بينما تعطلت مئات الطائرات العسكرية الإيرانية والدبابات الأمريكية الصنع لعدم توفر قطع الغيار من الولايات المتحدة ، وكان صدام مطمئنا إلى أن الجيش العراقي هو الأقوى في المنطقة بعد اسرائيل، وسينهي الحرب سريعا، إلا أن الحرب طالت لمدة ثماني سنوات.
بعد سنوات من الحرب المرهقة أصبح العراق مستعدا لوقفها بأي وسيلة، لكن ايران لم تقبل، وعلى أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، أعلن العراق انسحابا كاملا من الأراضي الإيرانية، وناشد ايران وقف القتال، والاتجاه معا لمواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان، لكن ايران لم تستجب، واستمرت الحرب دون أن يحقق العراق أي هدف استراتيجي، أما الإيرانيون فقد اعتبروا أن العراق وقع في مصيدة بدخوله هذه الحرب، وأن دخولهم بغداد لم يعد بعيدا، لكن التدخل الأمريكي الواسع لمصلحة العراق في أواسط الثمانينات منع ايران من الانتصار.
في شباط 1986 استطاع الإيرانيون مع خسائر كبيرة اختراق الجبهة العراقية وعبور شط العرب، والاستيلاء على الفاو. وعندما رأى الأمريكيون أن دعمهم العسكري والاقتصادي للعراق لم يكف لوقف الزحف الإيراني، باشروا دعما أكثر مباشرة.
لم يكن هدف أمريكا انتصار العراق بل عدم انتصار إيران، فطلبوا من اسرائيل وقف شحنات السلاح الأمريكي إلى طهران، وقامت طائرات التجسس الأمريكية بتصوير المواقع الإيرانية، وإعطاء المعلومات إلى العراقيين، فتمكن العراقيون من استعادت الفاو، وكل أراضيه، وبدأ مجددا الاستعداد لغزو الأراضي الإيرانية، عندئذ استطاعت القيادة العسكرية الإيرانية إقناع الخميني أن إيران أصبحت تواجه الولايات المتحدة وليس العراق فقط، فأعلن عن وقف الحرب.
كانت الاستراتيجية الأمريكية ترى أن دعمها للعراق سيجعل منه "تابعا" أو على الأقل حليفا كما كان الشاه من قبل. ولكن العراق كان يملك ديناميته الخاصة وتاريخه وتنوعه الديمغرافي، وتطلعات نظامه القومي العربي. ولذلك لم يكن "تابعا" بالمعنى الكلاسيكي الذي أراده مخططو البنتاغون والخارجية الأمريكية.
رسميا بقيت الدول الكبرى على الحياد، ولكنها لم تمانع في أن تستمر الحرب طالما أن احتواءها ممكن، خصوصا وأن رحاها تجري بين بلدين غير مرضي عنهما تماما في الغرب. وصرح هنري كيسنجر آنذاك قائلا:" المصلحة الأمريكية العليا في الحرب هي أن يخسر الطرفان".
كانت الحرب الأطول في الشرق الأوسط والأكثر كلفة منذ الحرب العالمية الثانية، ودمرت كل المكتسبات التي حققها حكم البعث خلال السنوات التي تلت الاستيلاء على السلطة عام 1968، وعاد العراق بلدا فقيرا دائنا عديم الاستقرار، كما توقف الدعم العربي الاقتصادي والسياسي للعراق بمجرد زوال الخطر الإيراني.
كان بإمكان الدول الصناعية الكبرى إنهاء هذه الحرب بقرار من مجلس الأمن، لكن هذا لم يحصل بل استفادت هذه الدول من استمرار الحرب، واستغلت الولايات المتحدة خوف العرب من الثورة الإيرانية، فقامت ببيع كميات هائلة من السلاح إلى السعودية ودول عربية أخرى، وبنشر نفوذها العسكري عبر اتفاقات مع دول الخليج سمحت لواشنطن باستعمال قواعد عسكرية عربية، ووجدت دول الخليج أن من مصلحتها التعاون مع الاستخبارات الأمريكية، حتى أصبحت هذه الدول التي استخدمت سلاح النفط ضد الغرب عام 1973، بحاجة إلى الولايات المتحدة لحماية آبار النفط.
شهد الثامن من آب 1988 نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ولم يخطر ببال أحد آنذاك بأن هذا التاريخ سوف يشكل بداية أزمة الخليج الثانية 1990 – 1991.
كان قيام طهران أولا باقتراح وقف لإطلاق النار كافيا لاعتبار العراق منتصرا في ذلك النزاع الذي حصد أرواح ما يقرب من مليون من البشر، والواقع أن العراق خرج من الحرب بقوة وقدرات عسكرية هائلة، لكن الكارثة المالية لم تكن تقل ضخامة. فعندما بدأت الحرب كانت لديه احتياطيات تقدر بثلاثين مليار دولار، وعندما انتهت الحرب كانت ديونه قد بلغت مئة مليار دولار.
سعت الولايات المتحدة إلى احتواء العراق بعد خروجه من الحرب متمتعا بعناصر القوة المجربة، بحيث أضحى قوة من ثلاث قوى إقليمية قوية هي تركيا بفعل عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وإسرائيل التي كانت عوامل الخشية من تصاعد القدرة العراقية قد أقلقتها.
في حين سعى العراق إلى قيام تكتل عربي ضم مصر والأردن واليمن والعراق، حمل اسم "مجلس التعاون العربي" في شباط 1989، وعندما حاول صدام توسيع بنود الاتفاق لتشمل المسائل العسكرية ومواجهة اسرائيل رفض مبارك ذلك بسبب معارضة واشنطن لأي تحالف عربي جديد هدفه محاربة اسرائيل، وبسبب توقيع مصر على معاهدة كامب دايفيد. أما في الخليج فقد عقد العراق اتفاقية عدم اعتداء مع السعودية، وسعى إلى اتفاق مماثل مع الكويت التي لم تتجاوب وبدأت تشكك في نياته..
يتبع..