إلى العزيز احمد حسن الزعبي..



العزيز أحمد حسن الزعبي..

تحية طيبة..

أرجو المولى – عزّ وجلّ - أن تصلك رسالتي وأنت تنعم بالحريّة، بعيداً عن قضبان السجن أو قضبان من أراد بك شراً أو قيداً.

علمتُ بقرارِ معاقبتكَ بالسجن على بِضع كلمات، رددها كثير من الأردنيين في سرّهم، خشيةً مما قد يطالهم، وأعلنها قليلهم، بما تيسّر، غيرَ آبهِ بما يلحق، فالغاية والغنيمة هنا شعبٌ ووطن.

لستُ أكتبُ إليك لأُعلنَ تضامني معك، أو لأدين قراراً، غايته خلخلةُ إيماننا الراسخ بصباحات تليق بوطننا، بل لأروي لك حكاية، قد تسلي بها النفس في هذه العِتمة.

مُبكراً، حين كان الحُلُم جنيناً، راقَ الفتى شروق الشمس، فاستيقظ ليَرقُبه، ويرسمَ به أملاً يُغذي جذّوة الحياة، لينطلق بعدها في سعيٍ وجد، حتى يأتي المساء، فيعاودُ أدراجه على أمل الشروق التالي.

سنوات طويلة، خيوطُ الشمس تخترق العِتمة، يرقُبها، يسعى ويجد، ليعود المساء مُحملاً بشقائه، لا شيء يتغير، المخاض لا يأت.

تورّم الجنينُ في صدره، لكنه لم يختنق، شاخَ فقط، صار كهلاً قبل أن يولد، ولم ينتظر ذلك الصدر الطاهر، أو ربما الملعون، مِبضَع جرّاح لولادة قيصرية.

راهنَ على كل شيء، باستثناء الجرّاح، وخابَ رهانه.

حينها، لم تعُد خيوط الشمس تُلهم يومه، فغادرها إلى سُبات عميق، لا يفيق منه إلا على رائحة قهوةِ ثقيلة، وصُراخٍ مكلوم، وصوتٍ ضَجِر، ضاقت به الدنيا بما رحبت.

بعد انقطاعٍ طويل عن خيوط الشمس، وفي ذيلِ ليلة باردة، ربما منتصف كانون الثاني، أَفاقَ من سُباته فجأة، وصنع قهوته، على غير ما اعتاد، وتوارى خلف جنينه مُترقباً شروق الشمس.

لم يُطِل الانتظار، كان شروقها موحشاً، صفراءَ بلا نور، شمسٌ ثقيلة ومريضة، فصمتت العصافير عن زقزقتها، اختنقت بها، وفرّت بعيداً.

حاول إرجاعها، ذكّرها بالحُلم والجنين، ورتّل عليها "إذا الشمس كوّرت"، لكنها أعرضت عنه، فصرخ بها "أين تذهبون"، لم يلتفت منها أحد، وظل وحيداً في وحشته.

حينها، تصابى الجنين وَادَّكَر قصيدة لشاعر سوداني، من أصل نوبي غير عربي، يقول فيها:

هذا الزمانُ زمانٌ ليس يُنصفنا
نحنُ الرجالُ أُولي الأخلاق والرَشدِ

هذا الزمانُ وصوتُ الحقِّ منهزمٌ
أمَّا الفسادُ فيدوي فيهِ كالرَعِدِ

هذا الزمانُ كلَيْلٍ مُظلِمٍ نَحِسٍ
يغشى العيونَ فما ينفكُّ كالزبَدِ

خنافسُ الأرض تجري في أعِنَّتِها
وسابِحُ الخَيلِ مربوطٌ إلى الوتدِ

وأكرمُ الأُسْدِ مَحبوسٌ ومُضـطهدٌ
وأحقرُ الدودِ يسعى غير مضطهـدِ

وأتفهُ النَّاس يقضي في مصالحهمْ
حُكمَ الرويبضةِ المذكورِ في السنَدِ

فكم شُـجاعٍ أضاع الناسُ هيبتَهُ
وكمْ جبـانٍ مُهابٍ هيبـةَ الأسَدِ

وكم فصيحٍ أمات الجهلُ حُجَّتَهُ
وكم صفيقٍ لهُ الأسماعُ في رَغَدِ

وكم كريمٍ غَدا في غير موضعهِ
وكم وضيعٍ غَدا في أرفعِ الجدَدِ

دارَ الزمانُ على الإنسـانِ وانقلبَتْ
كلُّ الموازين واختلَّـتْ بِمُستندِ

رتّل الجنينُ الملعون القصيدة، طرِب الفتى ورقص فرحاً، إذ لا زال في الجنين روح صِبا.

لم يدم مقام الفرح به طويلاً، سرعان ما تبدد وتلبّد، وهو يُسأل عن حاله، وصحة وشايةٍ لعَسسِ أحد الموالي.

صمت، وفي فقه العارفين الصمتُ هِنة، وسلامة مُلطخة بالذل، لم يأبه، وخلد إلى فراشه مُتدثراً بِرثه.

واصل صمته حتى اليوم، ليتزيّن صباحهُ المتأخر ويتوشّح – مجدداً - بالصُفرة.

وللصمتِ بقية..