بدايات تراجع مستوى التعليم الأردني.. هل نجدها في سياسات التحول من تعليم النخبة إلى التعليم للجميع؟
كتب الدكتور محمود المساد -
في البدايات وبعد استقلال المملكة أقبل على التعليم بعض الطلبة الذين يمتلكون سمات خاصة لم تفرزها مقاييس، ومقابلات علمية عالمية، بل قررتها التجربة، وقسوة الظروف الحياتية، وانتقال الطلبة لمدارس قد تبعد مسافات تضطرهم إلى السكن بعيدا عن قراهم، وبلداتهم، أُسرهم، وأهليهم، وهم في أعمار صغيرة. وهذا يعني أن استمرار الطلبة في التعلم كان يقتصر على نخب من الطلبة فقط، فرزتها ظروف الحياة الصعبة وتحدياتها الجسام من جانب، والقدرات الشخصية الأقرب لسمات الشخصية المتفوقة من جانب آخر. وهنا، يحق لنا أن نقول: إن نخب الطلبة في العقود السابقة لقرار اليونسكو حول التعليم للجميع، كانت فرزا يجسد الانتخاب الطبيعي للأقوى من بين الطلبة: إرادةً ،وتصميمًا، وشخصيةً، وفضولاً تعلميا، وحبا للنجومية الاجتماعية، والدخل المالي المتحصل من الوظيفة العامة.
أمّا الإعلان العالمي حول "التربية للجميع" الذي اطلقته منظمة اليونسكو خلال مؤتمرها الذي عقدته عام 1990 في تايلندا (جوميتيين) فقد كان بداية التحول إلى توجيه التربية والتعليم لجميع الطلبة على اختلاف قدراتهم، وميولهم، وظروفهم. ومنذ ذلك الحين، تعهّدت الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، والوكالات المانحة الثنائية والمتعددة الأطراف، ووسائل الإعلام بتوفير التعليم الأساسي للأطفال، والشباب والراشدين جميعا ".
إن هذه الدعوة العالمية حولت التربية والتعليم من تعليم نخبة يركز على القادرين عليه، والمتفوقين به، إلى تعليم للجميع، بغض النظر عن مستوى قدراتهم بوصفه حقا من حقوق الإنسان الأساسية، وتقوم عليه التنمية الشاملة للدولة. ومن هنا، تحولت عمليات التربية والتعليم إلى حركة تستهدف جميع الطلبة بحسب أعمارهم المحددة وفقا للتوجهات العالمية، والمؤشرات التي اعتمدتها لقياس التقدم المحرز لغايات الرصد والمقارنة بين الدول، وهي مؤشرات تحقق كمية ركّزت في أغلبها على نسب التحاق الطلبة في التعليم ونسب استمرارهم فيه، ونسب التسرب منه، ونسب التحاق الجنسين بالتعليم، وحجم الفجوة بين تعلم الذكور والإناث ونسب الأمية ……. وتصدرت الأردن آنذاك في تسعينات القرن المنصرم دول المنطقة في هذا المجال.
نحن مع هذا الحق الإنساني المكفول بالدستور ، إلا أن الأخذ به لم يشمل الموضوع بكليته وشموليته، بل أهمل التركيز على الجانب النوعي بالقدر نفسه،وترك هذا الجانب تحت ذرائع ومسوّغات منها: ارتفاع تكاليف متطلباته مقابل سهولة التركيز على المؤشرات الكمية، وتلبية الحاجات الاجتماعية المتزايدة التي غرست قيم التباهي الاجتماعي القائم على تعليم الأولاد، وهجر العمل الزراعي القاسي الظروف أمام إغراءات الوظيفة ثابتة الدخل، والهيبة والجاه.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكننا الإجابة عن السؤال الذي يتكرر دائما وبالذات في كل مناسبة اجتماعية: ( أين غاب معلم زمان، وطالب زمان. ومناهج زمان، وتعليم زمان؛ مقارنة لكل منها مع ما يقابلها هذه الأيام؟ ). ونجيب بسهولة: كان الطالب من النخبة، ويتخرج معلم نخبة، ويعمل في مجتمع يحترمه ويقدره ويقدمه على كل من سواه، ويتحصل على دخل مالي مناسب أفضل من غيره من العاملين في الدولة، الأمر الذي قدّم المهنة وجعلها المصدر الوحيد لكل الكوادر البشرية في الدولة. وبالطريقة نفسها يكون الجواب معكوسا حول المتجهين من الخريجين لكليات التعليم من رواسب الكفايات؛ ليتخرجوا معلمين متوسطي الكفاية والباقي عندكم!!!