هل نجحنا في الانتقال إلى التعلم النوعي بعد التقدم في التعليم الكمي؟



​شهد عقد التسعينات من القرن الفائت محاولات جادة في التبشير والتحرك نحو التأسيس للتعلم النوعي، لكنها لم تترك أثرا في تفاعلات التعلم والتعليم في غرف الفصول الدراسية، على الرغم من زخم التدريب الذي عُقِد للمعلمين والإداريين. وربما وقف خلف هذا الإخفاق ضعف أصحاب القرار، وتمسكهم بأثواب المحافظة على ما تعودنا عليه، وفي الوقت نفسه خوفهم من الانعتاق، ولو التدريجي نحو التحديث ومسايرة التجارب الدولية الناجحة، فضلا عن التغني باستمرار بأننا في صدارة دول المنطقة في مؤشرات التعليم الكمية.

​إن التعلم النوعي المنشود يهدف إلى رفع نسبة تعلم الطلبة على حساب نسبة التعليم، والبث فقط من طرف المعلم، والحرص المضاعف وخلق الفرص المتكررة والمستمرة الموجهة نحو وضع الطلبة في مواقف مختلفة، ومتعددة تبني شخصياتهم، وبالذات الجوانب الاجتماعية، والعاطفية والمهارية إلى الجانب الأكاديمي، مع التركيز على ترسيخ منظومات القيم المحلية، والعالمية المرغوبة، ومهارات الحياة وتاجها في تعليم التفكير والتفكير الإبداعي، وتوظيف التكنولوجيا ومتابعة التحديث العالمي في الجوانب كافة .
وتماشيا مع نظم التعليم العالمية الناجحة، والمتفوقة التي تحكم كل منها فلسفة واضحة، وتوجهها منطلقات تنبع من مصالحها العليا، فإن نظامنا التربوي والتعليمي تغيب عنه فلسفته، أو هي في وادٍ وهو في وادٍ آخر، أو جاء قادة النظام بلا معايير تجعل منهم مدركين لها، أو قادرين على إدراكها. وهنا غابت قيمتا العدالة وتكافؤ الفرص على سبيل المثال، اللتان كانتا من المفروض أن تقفا وراء النظام، وتسندانه في إعداد المتعلمين والمجتمع، وتقودانه إلى حياة مزدهرة حرة تلبى فيها الاحتياجات الفردية والمجتمعية – الأخلاقية والمعنوية والمادية – دون الالتفات لتوجيه مصالح أصحاب القرار، وغاياتهم المتغيرة والمتناقضة؛ تبعا لتغيرهم السريع وتغير التوجهات التي تقف خلفهم وتحركهم بين الفينة والأخرى.
لقد أخذت وزارة التربية والتعليم فرصة ذهبية في مشروع ( ايرفكي ) في مطلع القرن الجاري ( 2002-2015 ) للتحول الجاد بالتعليم العام نحو التعلم النوعي - على الرغم من الكلف المالية العالية التي رفعت من نسب الدَّين العام الوطني كثيرأ - الذي تلحق به وبآثاره على مخرجات النظام بركب الدول المتقدمة، وتفلح بتحقيق أهداف الدولة في الرفاه والازدهار، إلا أن هذا المشروع لم يترك أثرا ذا دلالة، بل وسلم التعليم برمته لمرحلة تاليه عنوانها التيه والضياع والتمزق.
إن التعلم النوعي يجعل من المتعلمين الأردنيّين طاقات هائلة بقدرات متفوقة، يوظفون بها مهاراتهم المتعددة القائمة على التفكير، والتفكير الابداعي في إنتاج المعرفة ونشرها، والتحول بها إلى ابتكارات واختراعات تدمج بها مجتمعنا في عجلة الإنتاج الحضاري العالمي، بدل أن نستمر في التراجع والهبوط واستهلاك المعرفة التي ينتجها الآخر الحي، وأن نستسلم لحفنة منتفعة من هوان المجتمع وضعفه الشامل بحجة أن تعليم التفكير مخيف يعدد بالآراء، وينوعها ويجعل من السيطرة عليها صعبا ومستحيلا.
إن التعلم النوعي يحتاج إلى نظام يعمل بكفاية وشمولية، توجهه فلسفة ومنطلقات واضحة غايتها قوة الأردن، ومنعته وازدهاره، تتعزز فيه قيمة المهنة ومواردها البشرية التي تنمو باستمرار بالتقدير والتدريب والتعزيز، وبيئات تعلُّم غنية حديثة تسودها مُناخات من الدفء، والتواصل المستمر الإيجابي، يعمل على محتوى مناهجي قائم على المهارات والمشاريع والقيم، ويُنتخب لتسيير كل ذلك نحو النجاح، والفعالية قيادات قادرة تتمتع برؤية وبُعد نظر مستقبلي قائم على مهارات استشرافية في المجال لا تخفى على أحد. وإلا سيبقى التعليم رهين عمل مرتجف يهوي بمستقبل الجيل والوطن إلى ما يحبه أعداؤه والمتربصون به.

حماك الله يا وطني