هندسة النظام العالمي الجديد عبر الكتل العالمية النامية
من الواضح أنَّ التحركات نحو هندسة نظام عالمي جديد أضحت اليوم المحور الرئيس لمجموعة الدول النامية، أو التي تُسمّى في طور النمو، Emerging Markets، والتي تقودها الصين بشكل صريح في الشأن الاقتصادي، وروسيا في الشأن السياسي، ذلك أنَّ اللاعبين الرئيسين ممّا اصطُلِحَ على تسميتهم «الدول المتقدمة» في أوروبا وأمريكا الشمالية، يعاني جميعهم من الأفول والبهوت والذبول، بل والإنهاك، إمّا بسبب الهِرَم والوَهْن، كما يحدث في قارة أوروبا العجوز، وإمّا بسبب التركيز على الانتشار السياسي والعسكري أكثر من التوسُّع الاقتصادي أو بناء المصالح التجارية، كما هي الحال في أمريكا.
الشاهد اليوم أنَّ الصين تتحرَّك بنشاط كبير بين مجموعة بريكس BRICS، ومجموعة دول الـ77+الصين، والكتلة الأخيرة والتي تتكون من نحو 134 دولة، عقدت أجتماعها السنوي في كوبا منذ عدة أيام وأكدت فيه على ضرورة إعادة بناء النظام المالي العالمي ليكون أكثر شمولاً وتشاركية. الصين تقود الكتلة العالمية الحرجة نحو نظام اقتصادي عالمي جديد يسحب البساط من تحت أقدام النظام المالي العالمي الحالي، ويجعله خلال العقدين المقبلين يخضع لمتطلبات مصالح الدول النامية، التي تسيطر على 80% من الكتلة الديموغرافية للعالم، وتشكِّل أيضاً ما يزيد على 50% من الاقتصاد العالمي .
وفي الوقت الذي ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تشكِّل نحو خُمس الاقتصاد العالمي بناتج محلي إجمالي من المتوقَّع أن يصل للعام 2023 إلى نحو 23 تريليون دولار، فإنَّ مجموعة اقتصادات الدول المتقدمة الأخرى، وتحديداً اليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، لن يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي في مجموعه عن نحو 17 تريليون دولار، وهو ما يقل عن الناتج المحلي الإجمالي المتوقَّع للصين، والذي يزيد على 18 تريليون دولار، وإذا ما أضيف إليه الناتج المحلي الإجمالي للهند، الشريك الرئيس الثاني للصين في مجموعة البريكس، فإنَّ ذلك سيجعلهما يشكّلان ما يقرب من اقتصاد الولايات المتحدة،
إلا أنهما يسيطران على أكبر منتجين في العالم، وخاصة المواد الغذائية والصناعات العالمية الرئيسة في مجالات التقنيات، والصناعات الثقيلة، وإذا أضيف إليهما الاقتصاد الروسي، فإنَّ المحصلة كتلة اقتصادية تُسيطر على أهمِّ إنتاجٍ للغذاء والطاقة والمياه والصناعات الرئيسة التقنية منها والثقلية، وبذلك فهي تفوق قدرة الولايات المتحدة الإنتاجية، والجغرافية، والديمغرافية، وتتجاوز مجموعة الدول المتقدمة أيضاً في كافة المتطلبات الاقتصادية، والديمغرافية والجغرافية.
المحصِّلة أنَّ مجموعة الدول النامية، وبقيادة ثلاث دول رئيسة هي الصين وروسيا والهند، توجِّه بوصلة العالم نحو نظام عالمي جديد، نظام يقوم على مصالح اقتصادية، قبل السياسية، وإن كانت المحصلة بعد عقود هي مصالح سياسية، وقد تكون عسكرية، تحكمها المصالح الاقتصادية، أكثر من المصالح السياسية.
مجموعة الدول القائمة على النظام الاقتصادي الحالي أضاعت الكثير من الموارد والإمكانات في التوسُّع في الإنفاق على المصالح السياسية والعسكرية، أكثر من تركيزها على بناء المصالح الاقتصادية والتجارية، بل وغفلت عن التركيز على مكوِّناتها من الموارد الاقتصادية الوطنية،
ما جعلها تستيقظ على ديموغرافية سكانية متقدِّمة في السن، وعجوز، واستثمارات ومنشآت اقتصادية دأبت على الهجرة إلى الشرق والجنوب، نحو الطاقة والعمالة الأرخص، ذات الطاقة الشبابية الأقدر على العمل، والأقل مطالبة بالمكتسبات التأمينية الاجتماعية. ما تواجهه ما تُسمّى «الدول المتقدمة» اليوم هو موارد بشرية متقدمة في السن، وصناعات مهاجرة، ونفقات سياسية وعسكرية متعاظمة. في حين تفرَّغت مجموعة الدول النامية بقيادة الصين وروسيا، وإلى حدٍّ ما الهند، نحو بناء مصالحها الاقتصادية والتجارية،
ما يتطلَّب صياغة نظام عالمي جديد، وخاصة في مجال العملات، والتعاملات المالية، وبالتحديد التسويات المالية عبر الحدود، بعيداً عن سيطرة ومصالح وأعين نظام أحادي القطب، تسيطر على تدفُّقاته المالية دولة واحدة، ونظام مالي واقتصادي واحد.
ومن المعتقد هنا أنَّ النجاح سيحالف مجموع الدول النامية في مسعاها نحو نظام مالي جديد، متعدِّد الأقطاب، ومتعدِّد العملات، ومتعدِّد أنظمة التسويات المالية، مع الابتعاد تدريجياً عن النظام المالي الحالي، القائم على نظام سويفت SWIFT، الذي تسيطر عليه جهة واحدة تستطيع من خلاله وقف التعاملات وفرض العقوبات، والسيطرة الكاملة على التدفُّقات العالمية.
بيد أنَّ ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها، وإنما على فترة لن تقلَّ عن عقد من الزمان، ولن تتجاوز عقدين من الزمان، على أقصى تقدير.
النظام المالي الجديد سيعتمد، من وجهة نظري، على خليط من التسويات المالية، بعضها قائمٌ على التسويات المالية بسلة عملات وطنية للدول، وخاصة عملات الدول الأكبر تأثيراً في التجارة الدولية، وبعضها تسويات مالية مباشرة بين الدول بناءً على حجم التبادل الثنائي، وبعضها سيعتمد على العملات الرقمية التي ستصدرها وتكفلها الدول الأكثر تأثيراً بالتبادلات التجارة العالمية، مثل الصين وروسيا والهند، وبعضها، وبشكل أقل، سيعتمد على المقايضة العالمية للسلع، خاصة حينما يكون التبادل الثنائي بين الدول كبيراً وأكثر تركيزاً على سلع رئيسية، مثل النفط، والمعدات الكبيرة، أو ما شابه من سلع وخدمات التعاملات الدولية.
الدول المتقدمة بالضرورة ستلحق بالنظام العالمي الجديد، ولكنها لن تكون المسيطرة بالضرورة على نظام التسويات، ولن يبقى الحال على ما هو عليه اليوم من سيطرة وضبط، وستبقى عملات تلك الدول المتقدمة، وعلى رأسها عملة الدولار، مهمة في التبادلات التجارية والتسويات المالية، ولكنها لن تبقى الوحيدة التي ستحدِّد أنظمة الصرف العالمية، أو انظمة التسويات المالية العالمية.
* الكاتب أستاذ السياسات العامة المشارك في كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية