علاقة الدولة بالدين والتدين والعلماء والدعاة

 
علاقة الدولة بالدين والتدين والعلماء والدعاة.

 
من المعروف أن النظام السياسي الاسلامي ليس من نوع الثيوقراطية في الحكم والذي يعني حكم رجال الدين الذين يدّعون بأنهم يحكمون باسم الله وكأنهم ظل الله في الأرض ، وكأن الحاكم إن لم يكن هو الإله فانه شبه إله ، وبالتالي لا اعتراض عليه ولا تعقيب لحكمه ولا محاسبة ولا رقابة تلحقه.

وهذا غير موجود في النظام السياسي الاسلامي الذي يتم اختيار الحاكم فيه من الامة التي هي مصدر السلطات بطريقة الشورى الدستورية التي سبق وذكرتها، ثم يلتزم الشورى في ادارة الدولة ، وتلحقه الرقابة من اهل الشورى ( سلطة التشريع ) وكذلك الرقابة الشعبية كما حدث مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حينما اعترضت عليه امرأة على قوله في تحديد المهور فقال قولته الشهيرة: اخطأ عمر ، واصابت امرأة.
الحاكم في النظام السياسي الاسلامي بهذا الوصف - البعيد عن الثيوقراطية - هو من نوع الحكم المدني - لأن هناك نوع آخر من الحكم وهو الحكم العسكري المقابل للمدني- ولكن الحكم المدني في النظام السياسي الاسلامي لا يعني اللاديني او المعادي للدين بذات الوقت، وهي مسألة غاية في الدقة والحساسية اردت هنا ايضاحها وبيانها لتوضيح علاقة النظام السياسي الاسلامي بالدين والتدين و دور العلماء والدعاة فيه.

هناك قاعدة جوهرية في النظام السياسي الاسلامي تحكم هذا الموضوع وتجلي الصورة وهي قاعدة ( السيادة للشرع ، والسلطان للامة ) بمعنى أن من يتولى الحكم ( السلطان ) هم من افراد الشعب والامة التي عبرت عنها القاعدة الدستورية ( الامة مصدر السلطات ) ، واما السيادة فهي تمثل مضمون وجوهر وموضوع نظام الحكم او ما يعرف بالسلطة الآمرة العليا التي يخضع الجميع لها ( وهذا تعريف السيادة في القانون الدستوري ) وهذه السيادة متروكة للمجتمعات والدول تحددها حسب هويتها وثقافتها وتاريخها ودينها ، فهي ليست وصفة جاهزة تفرض على كل الشعوب والأمم ، فثمة دراسة لمركز بيو للأبحاث في واشنطن أجريت على 199 دولة في عالم اليوم تبين أن 43 % منها تتبنى ديانة أو مذهبا دينيا معينا، وأن أكثر من 80 دولة حول العالم لديها دين رسمي في دساتيرها ، وأن 13 دولة في فئة الدول التي لديها دين رسمي تتبنى المسيحية، من بينها 9 دول في أوروبا مثل: بريطانيا والدنمارك وآيسلندا.
وأشارت الدراسة إلى أن الإسلام هو أكثر الديانات التي تتبناها دول رسميا في العالم.
ولفتت كذلك إلى وجود 10 دول تكن العداء بشكل رسمي أو غير رسمي للدين ولا تسمح لأصحاب المعتقدات الدينية بممارسة عقائدهم بحرية.

فليس من الغرابة ولا من الحرج اطلاقاً اليوم وأمس وغدا أن نقول بأن دولة ما ترغب في اعتبار الاسلام دينا رسميا للدولة حقيقة وليس شعارا واسماً.
ولكن الأهم برأيي عن كيفية نقل الاسلام من كونه دينا يدين به الفرد الى أن يكون دينا تدين به الدولة.
وهنا تحديداً تأتي خطورة الفهم المجتزأ او المشوه للاسلام الذي نريده أن يشكّل " النظام العام " في الدولة .

وهنا نستطيع القول بكل ثقة أن الاسلام يصلح لأن يكون نظاما عاماً للدولة ويشكل قاعدة " السيادة للشرع " بما يحمل من مرونة كافية تصلح الواقع وتوجد الحلول لكل الأزمات والمشكلات التي تواجه الدولة، وبما تحمل من مبادئ دستورية وقواعد تشريعية قادرة على تلبية متطلبات الزمان والمكان.
ومن الأهمية بمكان ان أذكر هنا أن تطبيق تلك القواعد لا يأتي بالإكراه و انما بالتربية والتوجيه والثقيف وبسيادة القانون والمساواة امامه بين جميع افراد وفئات المجتمع و على قاعدة العدل اساس الملك.
مع التأكيد على احترام اصحاب الديانات الاخرى داخل الدولة وحفظ حقوقهم الدينية وخصوصيتهم الاجتماعية بما لا يناقض النظام العام ، وعلى قاعدة المواطنة المتساوية في التعامل ، مع البعد عن نظرة كونهم " أقليات " فلا محل لهذه النظرة في ظل النظام السياسي الاسلامي اطلاقا وهذا ما اشارت له ونصت عليه الوثيقة النبوية المدنية بوضوح من اول يوم قام فيه للاسلام حكم ودولة.

ومن الأهمية بمكان ايضاً التأكيد على أن النظام السياسي الاسلامي لا يتبنى مذهبا فقهيا او عقديا معينا يحمل الناس عليه ، فقد طلب الخليفة ابو جعفر المنصور وقيل الخليفة المهدي من الإمام مالك رضي الله عنه السماح له بنسخ موطئه واعتماده في الدولة ولكن الإمام مالك رضي الله عنه رفض ذلك .
ونعلم جميعا سبب محنة خلق القرآن زمن المأمون التي جاءت نتيجة تبني الدولة مذهب المعتزلة في ذلك وأوذي فيها خلق كثير على رأسهم الامام احمد بن حنبل رضي الله عنه حتى جاء الخليفة المتوكل وانهى القول به.

وبالتالي ما أود قوله أن دين الدولة الاسلام والسيادة فيها للشرع، ولكن لا يجوز للحاكم ولا للنظام السياسي أن يحتكر الدين والاسلام وانما يترك ذلك لتفاعل المجتمع معه بشكل طبيعي وتلقائي وانما يتمثل دور الدولة في أمرين اثنين:
الأول: حماية الدين من الطعن فيه وترويج الشبهات حوله ونشر الأباطيل وهذا يشمل حماية الدين من اعدائه الخارجيين المغرضين وكذلك من ابنائه الجهلة والمشعوذين والسحرة واهل البدع الشركية تحديدا التي تلبس على الناس دينهم وتنقل الدين من قواعده الواضحة النقية واسسه العلمية في الفهم والاستنباط الى مربع الكهنوت .

والدور الثاني للدولة: هو ما يقع على عاتق اهل الشورى ( سلطة التشريع ) أن يلتزموا عند سن القوانين عدم مخالفتها الصريحة والواضحة لقطعيات الدين المجمع عليها، واما ما يحتمله الخلاف فلا يمنع الاخذ به والتشريع ضمنه، علما أن اغلب القوانين المعمول بها والتي تصدر عن البرلمانات في الدول تأتي من باب " المصالح المرسلة " التي يجتهد بها في اصابة المصلحة ودرء المفسدة بالاجتهاد المقاصدي .

يبقى الحديث عن علاقة العلماء والدعاة بالدولة والحاكم في النظام السياسي الاسلامي، وهو مجال حديثي في الحلقة التالية ان شاء الله.