برامج صندوق النقد تعيق النمو ..كيف نحول دون استمرار التراخي الاقتصادي وتداعياته؟
لست بحاجة للإطالة بغية التأكيد على معاناة الاقتصاد الوطني من "تباطؤ" طويل إذا ما قسنا النمو الاقتصادي بالزيادة في الناتج، ومن "انكماش" ممتد إذا ما قسنا النمو الاقتصادي بطريقة "تنموية" صائبة وهي طريقة: الزيادة في الناتج لكل فرد (متوسط دخل الفرد)، وليس كما تقيسه الدول الغربية ذات النمو السكاني الصفري (1).
ولست بحاجة الى مقال مطول آخر للتنويه الى ان السياسات الاقتصادية الكلية في إطار اتفاقيات وبرامج صندوق النقد الدولي هي سياسات تقييدية وانكماشية في بعديها النقدي والمالي، وأن سياسات تخفيض الدعم واسترداد الكلفة للمنافع العامة المتصاحبة مع ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية وأسعار فوائد الإقراض الاستهلاكي والعقاري والاستثماري انما ستعمق الضغوط الانكماشية الراهنة والمعيقة للنمو من خلال تراجع الطلب الكلي الفعال.
هذا سيزيد من الضغوط والمديونية المالية على الأفراد والأنشطة الاقتصادية، ويزيد من معدلات إغلاق الشركات وانسحابها من السوق، ويلقي بأعباء رقابية إضافية ومكلفة على النظام القضائي والتنفيذي جرّاء تنامي قضايا الطلاق والتشرّد والتسوّل والعنف والجريمة (ضد الملكية وغيرها) وجرّاء التخلف عن السداد في القروض المصرفية وعقود الإيجارات وغيرهما، ويحول بالتالي دون الانطلاق الاقتصادي والمالي من جديد حسب البرنامج الاقتصادي.
ويجدر بي التنويه الى دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي(2021) عنوانها: تجنب الوقوع أو معاودة الطيران: نقاط الانعطاف في هشاشة الدول:
Avoid a Fall or Fly Again: Turning Points of State Fragility
تستنتج أن تجنب الانكماش الاقتصادي عامل حرج وسريع الأثر لمنع الهشاشة (أو تحفيزها إذا استمر الانكماش):
"Avoiding economic contraction is critical to prevent a country on the brink of fragility from falling into fragility” (p.2)
وأمام هذا الواقع، فإن خيارات السياسة التقليدية المتاحة ليست عديدة وهي غير مضمونة النتائج واسعة النطاق، خصوصاً وأن السنة الأولى من رؤية التحديث أفرزت نمواً في متوسط دخل الفرد يقارب 0.3%فقط، وهي نسبة لا تكفي لتعويض ما فات وأيضاً تقل بوضوح عن المطموح والمستهدف (3.5% تقريباً).
التطوير المؤسسي والإداري هام جداً، بما فيها قيادة الملف الاقتصادي ككل واستهداف أنشطة اقتصادية واعدة بالدعم، لكن يتطلب زمناً ومساءلة و"متابعة وتقييم" كونه عامل بطيء الحركة. أما السياسات الاقتصادية القطاعية والتصديرية فهي سياسات سريعة وواعدة لكن تنفيذها الفعال والمؤثر بمعيار النمو والتوظيف يتطلب تنسيق وكفاءات ادارية عالية المستوى.
أحد كبار الاقتصاديين المخضرمين في الأردن يرى ان سياسة توسيع السيولة المحلية لن تقود الا الى التضخم (ارتفاع الأسعار المحلية)، أي أنها حسب رأيه كمن يستعين بمياه البحر لروي عطشه. لكن هذه الرأي الكلاسيكي ينفع خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي وليس في مرحلة كورونا أو المرحلة الراهنة. والمطلوب ليس كما يقال في القرن العشرين "القاء الأموال للعموم من خلال طائرة مروحية "!. فالمطلوب آلية للتوسع النقدي أكثر احترافية واستهدافاً وبتغذية راجعة ذكية.
المدرسة الكينزية في دعم النمو من خلال تقوية الطلب الكلي الفعال لها منطقها القوي، لكن لتوصياتها سياقها الخاص أيضاً وهو الاقتصاد الراكد أو المنكمش حيث الأيدي العاملة والمصانع والمزارع والمنشأت التجارية والخدمية والمكاتب التجارية "تكش ذبان" وتعاني من نقص الطلب وركود السوق ومن البطالة والطاقة الفائضة غير المستغلة. وليس من مدرسة اقتصادية -بما فيها مدرسة صندوق النقد والبنك الدولي- تملك توصيات صحيحة عابرة لمختلف الأزمنة والبلدان والظروف.
هذا المقال، وبناء على تاريخ النمو الوطني وعلم الاقتصاد الكلي الكينزي وغيره، يرى امكانية توسيع الطلب الكلي وتحفيز النمو دون التداعيات التضخمية المتوقعة من قبل المدارس المعارضة.
الفكرة الرئيسية هي توظيف أدوات الاقتصاد الرقمي والشراكة بين القطاعين العام والخاص والرقابة الحكومية السعرية في التمييز لصالح الصناعات والأنشطة المحلية المؤهلة التي لا زالت تعاني من طاقة انتاجية فائضة ومن عجز في الطلب والمبيعات بعد ظل كورونا الطويل.
فمن خلال بطاقة ائتمانية ذكية يمكن للأردنيين الأفراد -دون غيرهم- الشراء بأسعار السوق من منتجات هذه الصناعات المحلية المؤهلة. هذا يستبعد إنفاق القطاع العام ومشتريات المنشآت الخاصة والأفراد غير الاردنيين.
والفئات المستفيدة تشمل المستهلكون الاردنيون والصناعات المحلية ذات الطاقة الفائضة (وتلك الراغبة في التوسع الاستثماري). ويمكن البدء بداية بمتقاعدي الضمان الاجتماعي (ضمن سقف محدد للراتب) والمتعطلين ضمن إطاره والمنتفعين من معونات صندوق المعونة الوطنية باعتبارهم من أبرز فئات "ذوي الدخل المحدود".
البرنامج التنفيذي المقترح يبدأ بتحديد سقف معين للتوسع في السيولة المحلية (عرض النقد M2) يُحدد بناء على الفرق المطلق بين حجم السيولة "المستهدفة" وحجم السيولة الفعلية خلال الشهور الستة الماضية، ثم يتم تخصيص هذا السقف بالتساوي على أفراد الفئات المستهدفة. على أن ينفق هذا المبلغ المخصص على منتجات وخدمات "أساسية" ومنتجة محلياً تحدد مسبقاً (مثال: المواد الغذائية والأدوية والمدافئ والتعليم الخاص الأساسي والجامعي والكهرباء والمياه). المؤسسات الاستهلاكية المدنية والعسكرية قد يكون لها مشاركة واعدة هنا.
كما ينبغي ثالثاً تحديد الأنشطة الصناعية والخدمية المؤهلة ضمن برنامج مستهدف للتوسع النقدي المقيد والمدروس وضمن معايير محددة. وسيشترط البرنامج خضوع هذه الصناعات والأنشطة الى تدابير رقابية سعرية واستثمارية خلال مدة البرنامج.
هذا البرنامج، القابل للتطوير والتوسيع حسب التدرّج، سيساهم في توفير فرص عمل جديدة ضمن الاستثمارات القائمة والجديدة، وفي زيادة القوة الشرائية والدخل الحقيقي للفرد من ذوي الدخل المحدود، كما تستهدف رؤية التحديث الاقتصادي، دون ان يقود ذلك الى زيادة الأسعار المحلية أو توسيع العجز في ميزان المدفوعات أو في الموازنة العامة، بل سيدعم هدف التوازن الداخلي والخارجي في الأجل الطويل من خلال تسريع النمو الحقيقي.
هوامش:
(1)أنظر مقالي: في تقييم الأداء الاقتصادي (2019). حسب وثيقة البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي، فقد تباطأ معدل النمو الاقتصادي خلال الفترة (2010 - 2021) بحيث لم يتجاوز 2.1 % بالمتوسط. ومع أخذنا لمعدلات النمو السكاني السنوية الطبيعية والتي لا تقل عن 2.2% سنويا، نتوصل الى واقعية افتراض الانكماش الاقتصادي الممتد كمتوسط عام للفترة الماضية، حتى باستبعاد النمو السكاني غير الطبيعي جراء الهجرة القسرية.