سنتياغو الإسبانية: مدينة الحواري وبضعة رجال وحنين فلسطين

 د. عبدالله يوسف الزعبي. ثمة مدن خجولة تختبيء وراء العيون، تخفي نفسها في حنايا التضاريس، وتغمد حسنها وسحرها الآخاذ إذ تخشى الحسد والعُقد. فهناك على حافة العالم القديم "شنت ياقب" كما أسماها الأندلسيون، في أقصى الناحية الشمالية الغربية من إسبانيا، في واد يزدحم بالخضراء وهضاب ترقص مع الريح الوافدة من الأطلسي القريب، وحيث نقاء أنيق وطهر بريء يليق بحواري يرقد بالمكان حسب الأسطورة، وفي بعض الاسطورة طمأنة وشفاء. 

هي مدينة سنتياغو دي كومبوستيلا ذات الطبيعة الخلابة والمكانة العظيمة عند المسيحية الكاثوليكية. ترتبط المدينة وجدانياً وتاريخياً بالجليل إبن الجليل يعقوب بن زبدي، أحد أقرب تلامذة المسيح وحوارييه، وربما يكون إبن خالته، وأسمها ينسب له حيث اشتق من لقب القديس يعقوب (Sancti Iacobi) باللغة الجليقية أو الغاليسية المحلية التي تنطق بها منطقة جليقية. عدة روايات تربط المدينة بالحواري يعقوب بن زبدي، أشهرها أن تلاميذه قد حملوا نعشه بعد أن أعدمه، في القدس عام 44 م، هيرودس أغريبا، آخر ملوك يهودا، وجابوا به البر والبحر حتى دفنوه في موقع المدينة. 

أما "دي كومبوستيلا" فكلمة مشتقة من اللاتينية وتعني حقل النجمة الذي يهتدي به المسافر حيث بها اهتدى المطران "تدمير الإيري" الذي اكتشف القبر سنة 814 م. قام، إثر ذلك، الملك ألفونسو الثاني ببناء كنيسة كبرى عند القبر ما لبثت أن أصبحت نواة لمدينة في القرن العاشر الميلادي تضم كاثيدرائية عظيمة تتمتع بقدسية جاوزت الفاتيكان وشكلت الحرم الأعظم عند الإسبان وأضحت محجاً للوفود التي تردها مشياً على الأقدام كل سنة وتقطع مسافات طويلة وشاقة تستغرق مدداً تتجاوز الشهر. 

كما رفع البابا أوربان الكاثيدرائية إلى مرتبة أسقفية كبرى عام 1100، وأنشئت جامعة عام 1495 في البلدة القديمة حيث أزقة مرصوفة ودروب ضيقة بعضها ملتوٍ وبيوت عتيقة من طين تبدو عليها ملامح الشرق وسمات التعب. يشعر المرء أن التاريخ حاضر بوقار في المكان يتباهى بالإرث العريق رغم اكتظاظه بالحجيج الذين يتلقون خدمات كاملة من الدكاكين والمطاعم والمحال المتراصة على جوانب الأزقة والممرات التي تسكنها طمأنينة لا يزعجها سوى تساقط المطر الزلال بطِله ورذاره وودقه.

زرت مدينة سنتياغو قبل عام ويزيد تلبية من دعوة جامعتها، وتحديداً من الدكتور سامي عاشور، ذو القامة السمراء وصاحب شهامة ترتسم على محياها عزة غزة، ونخوة تفرش للضيف الأرض كرماً وجوداً وتمدها بساطاً للود والطيب. كانت الزيارة قصيرة امتدت على مساحة بضع أيام رسمت في المخيال خريطة ما تبقى من العمر، فهناك التقيت كذلك الدكتور غالب جابر الذي قطن المدينة منذ نصف قرن ونيف، وغدا شطراً من حالها وتاريخها وزينة من رجالها. كان غالب، النابلسي إبن جبل النار، ناراً تلتهب من حنين لوطن سرق وضح نهار ولظى غربة خطت وجهه الوسيم بالبياض وقليل تجاعيد، ناراً زادته عطاءً وأربته إحساناً وجعلت منه قديساً آخر من فلسطين يسارع في الخير ويجبر العثرات.

دعيت إلى محاضرة عن القضية الفلسطينية صدف تنظيمها أثناء الزيارة ألقاها البرفيسور إلان بابيه، استاذ التاريخ في جامعة اكسيتر البريطانية والسيد عمر البرغوثي، أحد مؤسسي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على اسرائيل (BDS)، الأول "إسرائيلي" والثاني فلسطيني.

 كانت القاعة التي احتضنت المحاضرة في مبنى تليد وقاعة اكتظت بالطلاب والأساتذة والمفكرين. تحدث البرغوثي عن منشأ الحركة عام 2005، وتاريخها وأهدافها وكيف أصبحت عالمية الامتداد تسعى لمقاومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي وتركيبة الأبارتهايد ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي. كما ألمح البرغوثي إلى موت حل الدولتين الذي أبرمت على أساسه معاهدة أوسلو وغيرها بسبب سياسة إسرائيل الإستيطانية، بل أبعد من ذلك بإعتبار أن النظام العربي الرسمي قد تخلى عن القضية الفلسطينية بصفتها قضية قومية جيواستراتيجية مصيرية. كما أشار البرغوثي إلى النجاحات التي حققتها الحركة في محاصرة اسرائيل دولياً، خصوصاً في أوروبا وأمريكيا، وعزلها أكاديمياً وثقافياً، ما جعلها، أي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، تشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل وجلبها عدداً لا متناهياً من الأعداء من المنظومة السياسية والإقتصادية والصناعية الغربية، خصوصاً الأمريكية، وحتى من مشاهير الموسيقى وهوليوود.


كلمة إلان بابيه كانت حديثاً من القلب أشبه بسيرة ذاتية تسرد رحلة عمر لرجل يهودي ولد في حيفا عام 1954، وتربى وترعرع على وقع حلم وردي بأرض موعودة من سمن وعسل تحول مع الزمن والكذب إلى كابوس من دم ونار. أدرك بابيه مبكراً، وربما قبل خدمته في جيش الاحتلال، بأن إسرائيل بنيت على الأساطير والافتراءات والتضليل التاريخي، من مثل إكذوبة تصورها عن ذاتها بأنها "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط؛ وتسويق ذلك للعالم، إضافة إلى إنكارها للفلسطنيين وتاريخهم ووجودهم وحقوقهم وإدعائهم المشهور عن فلسطين بأنها "أرض بلا شعب". 

يتعمق بابيه أكثر في فك اراتباط الصهيونية باليهودية عبر المعالجة التاريخية حيث جماعات يهودية متعددة، من مثل المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة، رفضت دائماً الصهيونية، كما يكشف أن أسطورة "الصهيونية ليست استعماراً" محض كذب إذ هي مشروع استعماري إحلالي لأنها لم تضع المبررات وتطبق الوسائل لإخراج الفلسطينيين من وطنهم فحسب، بل عملت أيضاً على تجريد المجتمع الفلسطيني بأكمله من إنسانيته. بدأ بابيه بعدها بدعم المقاطعة الاقتصادية والسياسية لإسرائيل، بما في ذلك المقاطعة الأكاديمية، لأن الاحتلال الإسرائيلي برأيه هو عملية ديناميكية تزداد سوءً كل يوم، مفضلاً أن يكون جزءً من حركة تاريخية مماثلة للحملة المناهضة للفصل العنصري لإنقاذ الفلسطينيين والإسرائيليين من كارثة وشيكة. لذلك دعاه رئيس جامعة حيفا للاستقالة عام 2006، وفي العام ذاته، بدأ بابيه مؤتمرات حق العودة السنوية، والتي دعت إلى حق العودة غير المشروط للاجئين الفلسطينيين الذين طردوا عام 1948. كل ذلك أدى إلى إدانته من حكومة الكيان والكينيست كما التهديد بالقتل، ما دفعه إلى المغادرة إلى بريطانيا والعمل فيها منذئذ، حيث يستمر في تأليف الكتب حول أكاذيب الصهيونية والخرافات التي تروجها إسرائيل ويفضحها إعلامياً أمام الجمهور الغربي، خصوصاً الشباب اليهودي، التواق لمعرفة الحقيقة من خارج القنوات الموجهة التي تروج للرواية الإسرائيلية.


تركت المحاضرة، مثلما الزيارة، أثر في النفس عظيم حرضتها على طرح أسئلة فلسفية عن أولئك الرجال وقصصهم، نفوس عظيمة وغربة لا تطفئ جرحاً، أرواح مسجونة في منتصف المسافة بين المنفى والحرية، كل ومشروعه، مدينة تجمعهم، أنين ديار توجعهم، ووطن يتألم وجعاً حيث القتل هواية في كولوسيوم يمتع عالم مجنون، يبحث عن التسلية في النفاق ودفن الرأس في الرمال والموبايل. هؤلاء رجال يأمنون الحياة من وحشة الذعر ويدحرون مخاوف الدّنيا، كيف لا وحواري يظللهم بأجنحة التوق واللهفة والحنين لفلسطين.