المقاومة تمنع ذوبان القضية الفلسطينية وطمس معالم الشعب الفلسطيني
الإعلان الإسرائيلي عن الهجوم الكاسح الناجح الذي قامت به قوات القسام على مستعمرات ومدن غلاف غزة جاء مشيراً إلى فداحة الصدمة التي أصابت الكيان الاسرائيلي من جهة والنوايا الخبيثة الإجرامية لهذا الكيان ضد معضلتهم الأكبر في إقليم غزة الفلسطيني جغرافياً وبشرياً، وإلى التبشير الاسرائيلي المبكر بأن المعركة المقبلة مع هذا الإقليم سوف تكون طويلة ودموية لأن أهدافها تتمثل في إفراغ إقليم غزة من معظم سكانِهِ وإجراء تغييرات بشرية ديموغرافية بنقل السكان من منطقة الى أخرى بحيث يتحول سكان غزة من مجموعة واحدة الى مجموعات مبعثرة هنا وهناك يسهل التعامل معها عسكرياً وكذلك اختراقها وتدميرها. وهكذا، فإن وقف الحرب الاسرائيلية الدائرة الآن محكوم بشكل أساسي بقدرة اسرائيل على النجاح في الوصول الى أهدافها سواء المخفية أو المعلنة . وتتمثل هذه الأهداف بشكل عام بما يلي :
أولا: تدمير مدينة غزة بشكل شبه كامل دون أي اعتبار للقانون الدولي أو الانساني أوالضحايا بين المدنيين والتبرير الاسرائيلي لذلك من خلال الإعلان الاسرائيلي العنصري المتكرر بأن الفلسطينيين ليسوا بشراً وبالتالي لا تنطبق عليهم القوانين الانسانية وأن الإسرائيليين فقط هم البشر .
ثانيا: تهجير اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من إقليم غزة بحيث لا يعود هذا الإقليم قنبلة بشرية فلسطينية تقلق اسرائيل وأمنها المستقبلي .
ثالثا: تدمير كافة التنظيمات الفلسطينية في غزة والتي تتبنى نهج المقاومة تدميراً كاملاً، ومنهم حركة حماس وكتائب القسام والجهاد الإسلامي .
رابعاً : محاولة خلق حُكماً فلسطينياً في إقليم غزة يكرس الانفصال الفلسطيني ويكون تابعاً للاحتلال وظلا َّ له مثل السلطة الفلسطينية في الضفة الفلسطينية .
خامساً : تهدئة نفوس الاسرائيليين التي أصابها الخوف والفزع من الانجاز العسكري الفلسطيني والهزيمة الاسرائيلية وإعادة ثقتهم بمؤسستهم العسكرية من خلال تدمير المدن الفلسطينيية وقتل الفلسطينيين ِبنَفَسٍ انتقامي يخلو من أي نزعة إنسانية.
الحقيقة الأساس والأهم في محاولة فهم موقف أمريكا والعالم الغربي المجنون في إعطاءه لإسرائيل تفويضاً مفتوحاً لفعل ما تريد مهما أدى ذلك التفويض إلى عنف مجنون وعمليات قتل متعمدة وابادة جماعية لسكان إقليم غزة من المدنيين هي أن اسرائيل في واقعها الحالي نتاج للحرب العالمية الثانية . وهذا المنتج الذي جاء على حساب الشعب العربي الفلسطيني كان ومازال يشكل جزأ ً رئيساً من الرؤية الأمريكية والغربية للحفاظ على مصالحها في المنطقة وفي العالم . ومن هنا، فإن اسرائيل تقع في منظور الرؤية الأمريكية والغربية خارج نطاق القانون الدولي والإنساني والاعراف الدولية وما هو مسموح به وما هو ممنوع . فهذا ينطبق على الآخرين في العالم وليس على اسرائيل التي تشكل امتداداً للرؤية الغربية وللذنوب والانتصارات التي رافقت وأعقبت الحرب العالمية الثانية، مع أن شعوب العالم الغربي قد فاض بها الكيل من استمرار متاجرة الاسرائيليين بعقدة الذنب لما يزيد عن سبعين عاماً .
اسرائيل باقية ما بقي النظام الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية ولن تزول إلا بزوال ذلك النظام . هذه هي الحقيقة المؤلمة التي تفسر الكثير من الألغاز والأحجيات التي ترافق موقف العالم الغربي من الكيان الاسرائيلي، ولا يجدي في هذه الحالة الحديث عن الحقوق والعدالة ووجوب الكيل بنفس المكيال .. إلى آخر ذلك فهذا كلام لا يُجدي ولا معنى له في قاموس المصالح السياسية والاقتصادية للعالم الغربي .
وهذا الحال يترك الفلسطينيون في المدى المنظور أمام خيارين : الأول يتمثل بالقبول والانصياع والتعايش من منطلق الهزيمة والاستسلام وهو خيار تمثله السلطة الفلسطينية، والثاني خيار الرفض والمقاومة وعدم قبول الأمر الواقع وجعل كلفة الاحتلال عالية وبشكل مستمر وهذا موقف حماس وكتائب القسام . وخطة اسرائيل على ما يبدو تتمثل في جعل تكلفة الخيار الثاني على الفلسطينيين عالية جداً لدرجة تمنعهم من تبني هذا الخيار وهو ما تحاول اسرائيل فعله الآن .
إن استيعاب وضع النظام الدولي السائد وميزان القوى المرافق له، وهو حالياً في صالح القوى المؤيدة والداعمة لإسرائيل، يشير الى استحالة تبني خيار التحرير في هذا الوقت لأن ذلك يعني الِصَدام مع قوى العالم الغربي وعلى رأسها أمريكا . ولكن ذلك لا يعني ولا يجب أن يعني الاستسلام للأمر الواقع والقبول بالإحتلال .
إن العمل على خلق الإحساس لدى الإحتلال بأن وضعه مؤقت وأن وجوده مفروض بالقوة من خلال عمليات مقاومة هو أمر ضروري وأساسي لإستمرار القضية الفلسطينية حية وذات قيمة مادية ومعنوية ووطنية عالية وأنها في نهاية الأمر َسّداً يحمي الفلسطينيين من إمكانية تطبيق الحل الأمريكي الذي أباد سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر واستولى على بلادهم أو الحل البريطاني الذي أباد سكان أستراليا الأصليين واستولى على بلادهم . ومن هنا تأتي خطورة مسار السلطة الفلسطينية الذي يقبل بالاحتلال والتبعية له على مستقبل القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وأهمية مسار المقاومة كما تجسده حركة حماس مع أنها تعلم جيداً أن مسار المقاومة في الظروف الحالية لن يؤدي إلى تحرير فلسطين أو يسمح به ولكنه سوف يمنع ذوبان القضية الفلسطينية وطمس معالم الشعب الفلسطيني وسرقة تراثه .
وهكذا، ومع أن ما حصل مؤخراً لن يؤدي الى التحرير، كون الفلسطينيون اكثر وعياً من الانجرار وراء الوهم والسراب،إلا أنه يشكل جهداً هاماً وخطيراً لتغيير قواعد التعامل مع القضية الفلسطينية التي أصبحت الآن في صالح اسرائيل بشكل يكاد أن يكون كاملاً، وأخذت تترجم نفسها مؤخراً في عمليات إهانة واذلال بشكل عملي وعلني ويومي للفلسطينيين والتعامل معهم باحتقار كامل واهانتهم واهانة مقدساتهم، الأمر الذي خلق وضعاً ضاغطاً ولم يترك أمام الفلسطينيين من خيار سوى هز المياه الراكدة من خلال عملية تُعيد وضع الفلسطينيين على خارطة الأحداث وتجعل منهم طرفاً رئيساً في أي تسوية أو مباحثات حتى ولو كانت جزئية للقضية الفلسطينية وللعلاقة بين اسرائيل والفلسطينيين، خصوصاً بعد أن تنازلت السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس عن هذا الدور للإسرائيليين وقبلت أن تجعل الفلسطينيين ظلا ًّ تابعاً للإحتلال .
إن ما أثار جنون اسرائيل وأمريكا والعالم الغربي أن الفلسطينيين نجحوا بعمليتهم الأخيرة في تحدي الحصار الاسرائيلي وآلة الحرب والحماية الاسرائيلية والتكنولوجيا الأمريكية وتمكنوا من اختراق الحصار الاسرائيلي واحتلال العديد من مدن ومستوطنات غلاف غزة مما شكَّل هزة للفلسفة الأمنية الاسرائيلية بأوجهها المختلفة والهادفة إلى إلغاء أي دور للفلسطينيين واعتبار وجودهم على أرض فلسطين أمراً طارئاً وغير شرعي وغير مرغوب به وأن أصحاب الحق بالتواجد على أرض فلسطين هم الاسرائيليون حصراً.
الأمور لم تعد كما كانت، وقواعد الاشتباك والتفاهم لن تعد كما كانت . الذعر الذي خلفة النجاح الفلسطيني الملحوظ بين أوساط الاسرائيليين أجبر الولايات المتحدة على ارسال حاملة الطائرات جيرالد فورد وأطنان من الذخيرة خلال ساعات من وقوع الهجوم الفلسطيني وذلك حتى تعيد الثقة إلى حلفائها الإسرائيليين المذعورين . ومع ذلك، من الصحيح الافتراض بأن نجاح الفلسطينيين في هجومهم على مدن ومستوطنات غلاف غزة سوف يؤدي بالنتيجة إلى سقوط حكومة اليمين المتطرف ويشكل نهاية الحياة السياسية لنتنياهو ، وربما نهاية اليمين الإسرائيلي إلى الأبد كما حصل لحزب الماباي بعد حرب 1973 . الأمور لن َتعُد كما كانت داخل الجسم السياسي الإسرائيلي الذي يجب أن يبحث عن مسار جديد بعد أن كاد حكم اليمين العنصري المتعصب أن يطيح بأمن إسرائيل من خلال ِفْكرَهُ المتعصب ذو المنظور الاحادي الاقصائي، الذي إستثار الغضب الفلسطيني وأسس لرد الفعل الفلسطيني الأخير .
الأمور سوف تنصب الآن على اعادة رسم خارطة الأحداث في المنطقة . والخيار بالنسبة للإسرائيليين وحلفائهم في العالم الغربي يتأرجح بين إلغاء أي دور للفلسطينيين على الاطلاق، أو الاعتراف بحقهم في دولة خاصة بهم ضمن مواصفات معينة بهدف تخفيف الاحتقان الفلسطيني ومنع انفجار الأوضاع في المستقبل، وإن كان ذلك قد يعني مطالبة الفلسطينيين بدفع أثمان فادحة مقابل الحصول على تلك الدولة والمرشح أن تكون دولة تابعة أمنياً واقتصادياً لإسرائيل . وهذا يعني استبدال عنوان الحكم الذاتي بعنوان الدولة دون أي تغيير في المحتوى .
المقاومة المستمرة هي الرد الفلسطيني الصحيح على الاحتلال وهذا الاحتلال يزداد شراسة ولؤماً كلما زاد استسلام الفلسطينيين وقبولهم بالاحتلال .وسلوك الاحتلال الشاذ المجرم الذي لا يعتبر الفلسطينيين بشراً، هو السبب في تأزيم الأوضاع وتأجيج المشاعر بين أوساط الشعب الفلسطيني، وعلى المجتمع الدولي أن يحاكم الإسرائيليين على أفعالهم التي تسببت في رد الفعل الفلسطيني الآخير .
الإسرائيليون سوف يشربوا بالنتيجة وإن عاجلاً أو آجلاً من نفس الكأس المرّ الذي أجبروا الفلسطينيين على تجرعه. ولا أحد يلوم الفلسطينيين، فالعين بالعين والبادئ أظلم . ماذا سيقول العالم لو أن الفلسطينيين طالبوا الإسرائيليين أن يسارعوا إلى ترك كيانهم البائس حفاظاً على أرواحهم ؟؟ إسرائيل الآن تطلب من سكان إقليم غزة من الفلسطييين ترك بيوتهم ومغادرة غزة حفاظاً على حياتهم !! ماذا يقول العالم ازاء ذلك ؟ ماذا يقول العالم لرئيس إسرائيل عندما يصرح بأنه لا يوجد فلسطيني برئ في غزة، أهي دعوة لتبرير عملية القتل الجماعي للمدنيين؟ الغرب المتوحش كشر عن انيابه دفاعاً عن عنصرية اسرائيل وهي امتداد لعنصرية العالم الغربي التاريخية .
lkamhawi@cessco.com.jo