لما لا تسأل أمريكا يا ولدي!
امتد الطريق متعرجاً في صحراء تتوسد الصبر، كأنما هي ثعبان يلتهم غيم الصيف والأفق، يغذ خطى العودة صوب مسقط الرأس عند شمس المغيب. جلس أبي في المقعد الأمامي بجانب سائق تلك السيارة العتيقة من ماركة مرسيدس ولون الطريق، بينما العائلة استقرت حيث أنا في الخلف البعيد. كان الدرب ترك الرويشد وراءنا على بعد نصف ساعة حيث كان أبي يحرس الحدود من السراب. قرية فارقت فيها قلبي وركنت أولى الذكريات وسبع آيات من فصول الوعي والحياة، افترق الجسد عنها مودعاً صحراء لي معها حكاية لم يبق منها سوى رشفة كأس أو بعض همسة وجرح أخضر ما فتيء ينزف الصديد. أحسب أنني، رغم صغري وأنا أرقب ضجر المسافة وسأمها، رأيت طيفاً خرج من رحم العطش على امتداد ذاك المسير، أظنه المخزومي إبن الوليد حين كان يؤم جيشاً من فرسان شمر والسرحان وأبني وائل وعنيزة وبقية من قريش، أتى من القادسية قاصداُ تل أبيب.
تركت تلك الرحلة سؤالاً واحداً في نفسي ما زال يطارد سنيني وأيامي منذ رأيت طائرات الشؤم وهي تستقبلني عند نهايتها في سهل حوران إذ كان يتشح سواد النكسة. سؤال واحد ما برح يتردد عبر أصداء الزمن الغائر في براءة الصغار، إلى اليوم حيث حافة عمر يتكيء على نصب قبر ينتظر، وجلاد ما زال يصر على اغتيال شرف الطفولة، بإسم الرب تارة، وتارةً ثأراً من الربيع. سؤال عن ذاك العدو الذي مزق الذات وسحق الفرحة، من هو ذاك الخصم الذي اغتال الرجولة وبعثر الود ولاحق النفس في داخلها ليشتت التاريخ في الاحشاء.
العدو لا يكون حقاً صغيراً بحجم تل أبيب أو تافهاً بجبن السوط، والغنيمة لا ترتقي أبداً لتكون نفطاً أو حدوداً أو مأذنةً فحسب، فذاك لغز لا يستقيم مع هول الجريمة وسخف العقاب. ربما يكون السؤال أكبر من الكلمة، وربما يحتاج إلى جواب تسطره دموع الأنبياء وتسقيه دماء الأبرياء، أو ربما يوجد عند قابيل حين ذبح هابيل، أو الغراب إن كان شاهداً أو شريكاً أو متواطئاً في محو آثار الجريمة.
سألت يوماً أبي عن تلك الرحلة قي صدر السنين ولما أصر على أن يترك السراب في الصحراء، سألته لماذا لم يتركني هناك أبحث عن جواب لسؤالي بين الرمال. ابتسم والدي وقال ببساطة: لما لا تسأل يا ولدي أمريكا، فحقاً قد ابتسم وسأل وقال، طوال كل تلك السنين، لكنني آسفاً لم أكن أصغي لوالدي وأستمع!