الشاعرة الفلسطينية مريم قوّش : الأرض من بعيد ساحرة شهية.. لا حروب ولا دماء

"ذاكرة الطفولة" زاوية نضيء فيها على طفولة أديب، نصغي لأولى تجاربه ورؤاه، أولى أفراحه وأحزانه، نمخر عباب مرحلة، بصماتها خالدة في أعماق الذات، وتتسرب لأطراف الأصابع، عبر النتاج الأدبي بين لحظة وأخرى.

قوش: مكتبة جدي مأدبة سماوية أقطف منها ما أشاء

سماء أبوظبي نافذة مفتوحة على المطلق

قوش: تذهلني مصر وآثارها وعظمة تاريخها وفتياتها ينافسن جمال الضفاف

الشعر لوحة منقوعة بالهيل والزعفران

تتحدث الشاعرة الفلسطينية ابنة غزة مريم محمد قوّش عن ذكريات الطفولة مع جدتها قائلة: "كان لجدتي طاحونة من الحجر تزين فناء المنزل الذي تعرشه شجرة العنب، وفي كل صباح تستند للزيتونة العظيمة، وتبدأ بطحن الحبوب".

وتضيف: "ما يزال رذاذ القمح وفلسفة عريشة العنب تؤسس ذاكرتي بعطر الكتابة، وطاحونة التذكار بضجيجها الثري تمنحني أسرار السنابل، جدتي سيدة ريفية حسناء بعينين زرقاوين وجديلتين منسوجتين بعروق الذهب، أراقبها كل صباح وهي تهذب للطيور الصغيرة أجنحتها، ثم تعد مناقيش الزعتر وهي تغني "يا بيّاعين السمسم"، وأنا أمام دوار الطاحونة أفتش عن لغز الطيران في ريش الحمائم، وصوت أمي إزاءها وهي تعد الشاي مع مناقيش الصباح: توقفي عن العبث بريش الحمام، كيف لك أن تعبثي بحرية الغيوم!، لقد مضت على تلك الحادثة سنوات، والصوت يتردد، برأسي كيف لي أن أعبث بحرية الغيوم".

نبوءات الشعر

وتضيف: "لم تكن أمي شاعرة متمرسة، لكنها كانت قارئة لحواس الطبيعة، كانت ابنة الريف الذي صنع منها فتاة تعشق الشعر ولكنها لم تجرؤ على كتابته، فأورثتني الريف وجدائل جدتي المذهبتين وعينيها العسليتين، وحاربت فيّ خوفها لتصنع من ابنتها شاعرة تلتهب في عروقها قصائد العنّاب، ها إنني أقرأ قصائدي الآن، وصوت ثرثرة الوادي بجانب بيتنا القديم وجدتي تنهل منه لتسقي الزيتونة والجورية وشجرة العنب العظيمة تضمّد رائحة مناقيش الزعتر، ويسكنني في هذه اللحظة صوت أمي وهي تدربني على الإلقاء أمام العصافير، قائلةً: غردي يا صغيرتي أمام الطيور فمنها تبتدئ القصائد، والعصافير هي أول نبوءات الشعر وأسخى نهايات المطر".

وفي حديثها عن جدها تقول: "كان جدي أول مدرّس وأول إمام مسجد في المخيم الذي نقطن فيه، وكان لديه مكتبة عظيمة يخشى عليها وكأنها قطعة من روحه، في كل يوم بعد صلاة العصر يبدأ بالكتابة، وحينما كان يراني، يبتسم قائلاً: تعالي يا جدو، تعالي حبيبتي لتري الكتب الجديدة التي اقتنيتها.. لا أعلم ما السر الذي كان يجعله يقاسمني ما يقرأ، فقد كان أرستقراطياً، لا يجرؤ أحد من الاقتراب من مكتبته سواي، لعل الأمر يعود في ذلك أنه من اختار لي اسمي، فأورثني شغفه الذي لا ينتهي في القراءة".

وتتابع قوّش: "كان جدي بارعاً بحياكة الكلام بينما أبي كان بارعاً بصناعة الموسيقى، فقد ورث عن جدي جمال الصوت، وكان يعشق العزف والغناء، ففي كل جمعة كان يتوجه لسوق المخيم ليشتري ثمرة قرع كبيرة ثم يجوفها، ويشد على جانبيها أوتاراً، لتصبح عوداً ومن ثم يبدأ بالغناء والعزف، وحينما يرى جدي وهو إمام المخيم ذلك العود يلقيه في الوادي ليجرفه التيار حيث البحر، وفي كل صبيحة جمعة يعود أبي لشراء ثمرة القرع من جديد ليلقيها جدي مراراً في الوادي، وهكذا حتى ضجر الوادي ومل أبي وترك العزف ومنحني أسرار الغناء".

فضاء من شغف

وعن صداقات الطفولة تضيف: "في الحياة، لست ممن يسهبون في العلاقات، فكانت صديقاتي من تلك البيوت البسيطة التي تلتف حول الوادي، كنا نتحلق حول بواكير الصباح، نبحث عن أعشاش الطيور، وما زلنا إلى اليوم نربي أجنحة الحلم، ونبحث في أعشاش الغيوم عن دمى وألوان وسكاكر، الجميل في صداقة الطفولة أن النفس في تلك الآونة شفافة كالضوء تتآلف مع من تحب ببساطة الماء، فلا مصلحة تحل فيها ولا رياء، لذلك إلى اليوم تستمر صداقتي مع رفيقات الطفولة إلى اليوم وفي كل لقاء بيننا يُختزل الزمن كأننا لم نفترق، نعود كأننا فتيات يصعدن أهرام السكاكر ويقطفن أحلام النجوم، نعود لسجيتنا كأننا بالأمس كنا نلعب حول الوادي".

وتضيف: "قصتي مع الهوايات غريبة، بعض الشيء، كنت أجلس بجانب التلة الرملية الموازية لبيتنا، وأبدأ بالنقش على التلة عشقت تنضيد السنابل وصناعاتها بأشكال يدوية هندسية، أحن لصنعها اليوم لا سيما بعد أن التهمت بيوت الإسمنت التلال وسفوح السنابل، ثم كان شغفي بالرسم والتلوين يزداد بعد ان اختفت التلال، أرسم كل ما يجول بمخيلتي سواء على الجدران أو على الأوراق، أو حتى على يدي، ثم لا أدري متى وكيف التهمتني الكتابة، فصرت أبني بها عوالمَ ومدناً وحكايات وأسراراً ومغامرات وقصائد أغنيها وأترجم بها ما يجول بي، حتى جذبتني الموسيقا فتعلمت العزف على البيانو في محاولة تلحين قصائدي ومحاولة منحها روحاً وأفقاً لا ينتهي، تضج بي عوالم كثيرة، ولكن الشعر دوماً يجذبني إليه بسحره الموسيقي العذب، فهو لوحة منقوعة بالهيل والزعفران، وموسيقى معتقة ومحررة في فضاء من شغف".

وتوضح: "كانت حصة التعبير تشي دوماً بأن هناك موهبة كامنة، كنت أثير انتبه معلمي اللغة العربية بما أكتب، فكانت لدي براعة -بالنسبة لذلك العمر- في كتابة القصة والأناشيد، في الحقيقة لم أنشر شيئاً منها، لأنني فقدت جزءاً كبيراً مما كتبت وبقي اليسير، ربما أعيد تنضيدها من جديد لأمنحها فرصة الحياة بعد زمن إن شاء الله"

مأدبة سماوية

وعن مرحلة الدراسة تقول: "المرحلة المدرسية فترة مغروسة في النفس تترك أثراً لا يُمحى، لا يمكنني نسيان معلمة اللغة العربية في الصف الخامس الأساسي السيدة الفاضلة حنان غنيم، أظنها أول من اكتشف موهبتي وأولاها اهتماما وتعزيزاً، كانت تقول لي دوماً: ستكونين شيئاً عظيماً ذات يوم، ستذهل قصيدتك العالم، ستتذكرين حديثي هذا بعد أزمنة، لم تبخل عليّ بساعات طويلة من التدريب والتعليم، أتذكرها الآن، وهي ترسل سلاماتها لي مع أمي كلما التقيتا في طريق العودة للمخيم، وكأنها ترسل في طيات كلامها: أرأيت؟ ألم أخبرك بذلك قبل أزمنة".

وحول رحلتها مع الكتاب تضيف: "القراءة غذاء الروح، على ثمارها اتسقت أحلامنا، منذ صباي كانت مكتبة جدي مأدبة سماوية أقطف منها ما أشاء، فبدأت بقراءة قصص الأطفال، ثم قرأت في عمر الصبا مؤلفات مصطفى محمود ومؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي، وربما تلك البدايات ما تزال عالقة في مخيلتي إلى اليوم، فإلى هذه اللحظة أحن للعودة إلى تلك الكتب وقطف ثمارها، وأجدني في كل مرة قارئةً أولى للكتاب، يخطر في بالي القصص العذبة التي تعشقها الفتيات، ساندريلا، ريزانبل، ليلى والذئب، ذات الرداء الأحمر، ما تزال تشكل في ذاكرتي باقة عطر لا تخفت".

وبالنسبة لتجربتها مع السفر تقول قوّش: "السفر مهم جداً للشاعر، فهو يمنحه مشاهدة واكتشاف عوالم أخرى عن قرب، السفر يمنح الشاعر فرصة أن يظل طفلاً به شغف الأسئلة، في السفر تستلذ الأذن بسماع لهجاتٍ لها مذاقها السحري الخاص، وبه متعة مشاهدة آثار أمم خلت، وبصمات أمم ما تزال تشيّد آثارها، وفي السفر تستنطق مسام الأرض فتكاد تخبرك بالذي هو آت، إنه متعة الاستكشاف الأول، وذهول الطفل الذي لا يفتأ عن ملاحقة أسراب الغمام، أول تجربة سفرية كانت لي العام الماضي في تشرين الأول ٢٠٢٢، حيث توجهت لمصر للتسجيل لبرنامج الدكتوراه في جامعة طنطا، كانت رحلة مثيرة للدهشة، كان النيل ممتعاً بعذوبته وقد ألقى على لغتي ما ألقى من سحر وجمال".

الأرض شهية

وتذكر: "في مصر لم أنم إلا القليل، فما كان يهون عليّ أن تضيع لحظة من دون أن أشاهد شوارع مصر وأزقتها وآثارها وعظمة تاريخها، كنت أسير بجانب النيل فتذهلني الفتيات الجميلات اللاتي ينافسن جمال الضفاف، وتغويني الأغاني الشعبية التي يرددها المصريون البسطاء، وتفتنني تلك اللهجة التي ثملت من مدام النيل، أمضيت أياماً ثم سافرت إلى أبوظبي، كانت حقاً من أجمل اللحظات التي عشتها، لأول مرة تحملني الطائرة، لأول مرة أبتعد عن جاذبية الأرض! ها أنا أصعد أفقد وزني ومعتقدات الطين بي وأصعد حيث الغمام، هي أول مرة أصعد عبر الطائرة، يقول لي جاري في مقعد الطائرة، هل تستبدلين مكاني بمكانك، لدي "فوبيا" من مشاهدة الأرض من أعلى، أجبته بلا وعي "ياريت"، جلست بجانب النافذة، كنت أتمنى لو أن للنافذة كوةً للفضاء أخرى فأخرج منها يدي فألتهم السحاب الذي يبدو من قرب عربة بيضاء شفافة مملوءة بغزل البنات، الأرض من بعيد ساحرة شهية جداً تراها بكامل تجليها خفيفة جداً تطفو يابستها على جوانب بحرها في زرقة مثيرة للدهشة! تبدو غريبة جداً تدق كقلب مولود ينتظر الصباح، ها أنا ابتعد عن الأرض! وها هي تدنو والبصيرة تتفتح من بعيد، وها نحن نبتعد للأعلى أكثر لتختفي الأرض ونطفو عائمين على السحاب".

وتختم: "من بعيد تبدو الأرض أكثر اتزانًا، شوارعها بلا ضجيج ولا نزاع أهلها ولا حروب ولا دماء، تبدو منقوعةً في زرقة سماوية شفيفة، ليت من فيها يرونها كما أراها من هنا، لما أفسدوها بالقتال والدماء، وصلت أبوظبي، فكنت أشد ذهولاً، سماء أبو ظبي أشد زرقة، سماء صافية من الغيوم ومن العصافير ومن الأسئلة، وكأنها نافذة مفتوحة على المطلق، الأبراج الشاهقة وحدها ذات صمت مثير للجدل، أم باقترابك من الأرض تبدو الأشياء بها أكثر اكتظاظاً، الشوارع مزدحمة بجنسيات شتى وكأنك في مزاد عالمي، وأقدام تسير على عربات الوقت كأنها الوقت، الكثبان خلف المباني الشاهقة تزداد ضبابية كلما اشتعلت قناديل الظهيرة، والشجر الذي لسعته شمس الصحراء الملتهبة، يبدو برتقالياً في عنق الأفق، وقلبي في تلك المدينة ككتاب الصحراء تذهله بدايات النهار".