غوستافو بِترو.. رئيس كولومبيا اليساري الذي تحدَّى إسرائيل

بينما تتوجه أنظار العالم العربي منذ انطلاق "طوفان الأقصى" إلى الإعلام الغربي ومواقف الدول الغربية وتصريحات مسؤوليها، التي حمل أغلبها دعما كبيرا ومطلقا لدولة الاحتلال، يتناسى الكثيرون أن العالم ليس أوروبا والولايات المتحدة الأميركية فقط، حيث ظهرت مواقف قوية داعمة لفلسطين من دول أخرى لم تلقَ الاهتمام الإعلامي نفسه، وواحدة من تلك الدول هي كولومبيا، التي تبنَّت موقفا ضد دولة الاحتلال يَعُده البعض أقوى موقف أخذته دولة أجنبية تجاه إسرائيل منذ بداية الأحداث.

 

بوغوتا وتل أبيب.. تحالف قديم كسره بِترو

"يسوع كان فلسطينيا وطلب من البشر أن يحبوا بعضهم".

تصريح قديم من غوستافو بِترو قبل أن يُنتخَب رئيسا

حين فاز الخبير الاقتصادي "غوستافو بِترو" برئاسة كولومبيا بنسبة 50.8% من الأصوات العام الماضي، صار أول رئيس يساري لبلاده التي يُعرف عنها اتجاهها اليميني وتحالفها المتين مع الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة (1). وقد اشتهر بِترو طيلة مسيرته بتأييده القوي للقضية الفلسطينية ووعيه الكبير بها، لكن هذا الموقف لم يُشكِّل جزءا من مشروعه ولا أجندته الرئاسية التي طرحها على الكولومبيين حين خاض انتخابات الرئاسة (2). ورغم ذلك، يعرف مؤيدوه بالفعل أنه يصف نضال الفلسطينيين بأنه نضال من أجل الحرية والاستقلال، كما سبق له أن أدان هجمات دولة الاحتلال على مسيرات العودة، بل ووضع سابقا صورة العلم الفلسطيني على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وعبَّر عن سخطه على فكرة الخلط بين الدين والدولة، مؤكدا أن إسرائيل لا تُمثِّل اليهودية مثلما أن كولومبيا لا تُمثِّل المسيحية. لكن بِترو لم يكن يدري بأنه على موعد مع حدث جلل أثناء رئاسته سيُغيِّر مشهد الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وسيدفعه إلى اتخاذ موقف مفصليّ وحاسم في تعبيره عن انحيازاته (3).

الكولومبية بوغوتا، وبالمثل افتتحت كولومبيا سفارتها في تل أبيب. وقد تطوَّرت العلاقات التجارية بين كولومبيا ودولة الاحتلال بالتحديد منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى أصبحت الأخيرة أحد أهم مُورِّدي الطائرات الحربية ومعدات المراقبة والبنادق لكولومبيا في التسعينيات (4).

 

رغم ذلك، شهدت كولومبيا في العقد الأخير تطورات مهمة في موقفها الدبلوماسي من القضية الفلسطينية بالتوازي مع العلاقات المتنامية مع إسرائيل، إذ قرَّر الرئيس الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للسلام "خوان مانويل سانتوس" أن يعترف بدولة فلسطين دولة حرة مستقلة ذات سيادة قبل أن يغادر منصبه مباشرة عام 2018، وهو ما وصفته حينها سفارة دولة الاحتلال في كولومبيا بأنه أشبه بـ"صفعة على الوجه"، وأنه جعل إسرائيل تشعر بالدهشة وخيبة الأمل، خاصة أن الموقف جاء من دولة تعتبرها تل أبيب حليفا مُخلصا. لكن ذلك لم يمنع تطور العلاقات بين بوغوتا وتل أبيب والتي وصلت ذروتها مع توقيع اتفاقية تجارة حرة بين البلديْن عام 2020، وحينها وصف حينها رئيس كولومبيا السابق "إيفان دوكي ماركيز" إسرائيل بالدولة الشقيقة (5) (6).

 

بعدما تولى الرئيس اليساري الحالي الحكم، وتهنئة إسرائيل له فور فوزه، أقدمت كولومبيا على خطوة جديدة مستفزة لدولة الاحتلال في سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل اندلاع "طوفان الأقصى" مباشرة، وهي افتتاح شارع باسم "دولة فلسطين" في العاصمة الكولومبية بوغوتا لإظهار الدعم للقضية الفلسطينية، بل وبدأت مراسم تسمية الشارع بعزف النشيد الوطني الفلسطيني إلى جانب النشيد الكولومبي في حضور وزير خارجية السلطة الفلسطينية، وذلك في وقت أخذت فيه الكثير من الدول اللاتينية تُعزِّز علاقتها بإسرائيل (7).

حتى تلك اللحظة، لم يكن هناك حدث جلل شهدته العلاقات الكولومبية مع دولة الاحتلال، فحتى حلول أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت كولومبيا لا تزال دولة حليفة لإسرائيل وتتمتع بعلاقات تجارية وثيقة معها، وكان بِترو وحكومته يُظهِران وُدًّا واضحا تجاه رجال الأعمال الإسرائيليين رغم ما أبداه الرئيس اليساري من دعم نِسبي لفلسطين يختلف عن أغلب سابقيه. ولكن كل ذلك تغيَّر حين جاء "طوفان الأقصى" ليبعثر الأوراق ويقلب الموازين.

 

طوفان الأقصى.. الوجه الآخر لبِترو

في الساعات الأولى من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومع أصداء مرور 50 عاما على حرب السادس من أكتوبر 1973، بدأت حلقة جديدة من حلقات المقاومة الفلسطينية شنَّتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، واستطاعت في يومها الأول أن تحقق نجاحات لم يخطر على بالٍ أنها ممكنة. وعلى إثر هذا النجاح، استشعرت دولة الاحتلال خطرا وجوديا، واستشعر معها العالم الغربي كله أن حليفته "الهشَّة" في خطر داهم، فهرعت العواصم الغربية المختلفة إلى إعلان الدعم المطلق لدولة الاحتلال والتأكيد أن المقاومة الفلسطينية "إرهابية"، على حد وصفهم. وقد بدأ الإعلام الغربي حملة فريدة من نوعها لشيطنة حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، مقابل الإقرار بـ"حق إسرائيل المزعوم في الدفاع عن نفسها"، وانطلقت إسرائيل بعد ذلك في عملية حصار شاملة لقطاع غزة وقصف عنيف ضد السكان الفلسطينيين فاقم مأساتهم الإنسانية. في ظل كل ذلك شهدت العلاقات بين كولومبيا وإسرائيل نقلة جذرية.

 

إبَّان هذا السعي الغربي الإسرائيلي المحموم لشيطنة المقاومة في أعين العالم، رفض الرئيس بِترو إدانة هجمات المقاومة على الاحتلال، بل وقارن انتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين "بالجرائم التي ارتكبها هتلر والنازيون ضد اليهود" حد وصفه، وقارن أيضا بين وضع فلسطين ووضع أوكرانيا، داعيا للانخراط مرة أخرى في عملية السلام. ومن جهة أخرى، اعتبرت دولة الاحتلال أن التصريحات التي أدلى بها الرئيس الكولومبي منذ اندلاع الحرب مُعادية للسامية، كما أعلنت الجالية اليهودية في كولومبيا غضبها من موقف بِترو وأظهرت دعمها لإسرائيل (8).

 

كان مسرح الأزمة الدبلوماسية بين بوغوتا وتل أبيب منصة التواصل الاجتماعي "إكس" (تويتر سابقا). فبعد يوم من هجمات المقاومة، ندَّد الرئيس الكولومبي في تغريدة بما سمَّاه "جهود النازيين الجدد في تدمير الشعب الفلسطيني وحريته"، وهو ما فتح عليه سيلا من الانتقادات المؤيدة لدولة الاحتلال، التي رأت أنه تجاهل إدانة هجمات المقاومة. وبعد ذلك بيوم علَّق بِترو على خطاب وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال فيه إن دولته تقاتل حيوانات بشرية، قائلا: "هذا ما كان يقوله أيضا النازيون عن اليهود"، ومؤكدا أن مثل هذا الخطاب الذي يحض على الكراهية سيؤدي إلى محرقة. وفي الأيام التالية، استمر الرئيس الكولومبي في التنديد بالحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، ثم تطوَّر الأمر إلى أخْذٍ وردٍّ على منصة "إكس" بين الرئيس الكولومبي وسفير دولة الاحتلال. وقد أكَّد الأخير بعدها في حوار صحافي أنه "لم يسمع أبدا أيَّ شخص من العالم الإنساني الديمقراطي يقارن إسرائيل بالنازيين" (9).

 

تطوَّر الخلاف إلى أزمة دبلوماسية حين استدعت إسرائيل سفيرة كولومبيا في دولة الاحتلال، وأعلنت أنها ستوقف صادراتها الأمنية للدولة اللاتينية، إذ اعتبرت إسرائيل في بيان شديد اللهجة أن تصريحات بِترو تُمثِّل دعما للأعمال الإرهابية على حد وصفها، وأن تصريحاته تؤجِّج معاداة السامية وتهدد سلامة اليهود في بلاده (10). لكن بيان إسرائيل الحاد لم يُثنِ بِترو عن تصعيد خطابه ضدها، إذ أكد أن بلاده ستتواصل مع جمهورية مصر العربية من أجل إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، كما قال إن كولومبيا لن تدعم الإبادة الجماعية، وإذا تطلَّب الأمر فستُعلِّق بوغوتا علاقاتها مع تل أبيب (11).

 

انضم وزير خارجية كولومبيا إلى بِترو في هجومه على دولة الاحتلال، مؤكدا أنه لا يمكن لعاقل أن يُصفِّق لسياسة الأرض المحروقة، كما قال كلمات فُهم منها في البداية أن كولومبيا تنوي طرد السفير الإسرائيلي من بلادها، إذ قال إن عليه أن يعتذر ويغادر، وكان ذلك بسبب رَدِّه على رئيس كولومبيا بشكل لم تعتبره كولومبيا لائقا، إذ قال ساخرا إن "الموساد أنشأ جماعة شبه عسكرية في كولومبيا يحكمها اليهود ذوو الأنوف الكبيرة"، في إشارة ساخرة منه إلى أن الرئيس الكولومبي يردد نظريات المؤامرة المعادية للسامية والكارهة لليهود (12) (13).

هل طردت كولومبيا السفير الإسرائيلي حقا؟

انتشرت في الصحافة العربية أخبار كثيرة حول طرد بوغوتا للسفير الإسرائيلي على خلفية تغريدة وزير الخارجية سابقة الذكر، التي حصدت عشرات الآلاف من الإعجابات في ساعات قليلة. لكن بمجرد أن تناقلت وسائل الإعلام العربية والعالمية الخبر، سارع وزير الخارجية في اليوم ذاته إلى توضيح أن بلاده لم تقرر طرد السفير الإسرائيلي، مُضيفا أنه يجب أن يتحدث بأسلوب لائق مع الرئيس بِترو ويحترم الأعراف الدبلوماسية. وقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الكولومبية الرسالة نفسها بعد ذلك، كما التقى بِترو عقب هذا التصعيد الكبير في المشادات الكلامية بسفير دولة الاحتلال في كولومبيا "غالي داغان"، لكنه رتب أيضا لقاء آخر مع سفير السلطة الفلسطينية في كولومبيا، بينما لم تعلق سفارة دولة الاحتلال على التصريحات الخاصة بطرد سفيرها (14).

 

ولا شك أن كولومبيا لا تزال تعتمد على إسرائيل في مجال التسليح، إذ استخدمت البلاد الأسلحة والطائرات الإسرائيلية منذ عقود في صراعها مع الميليشيات اليسارية واليمينية وعصابات المخدرات، وما زالت العديد من طائراتها المقاتلة الأساسية عالية الجودة، والصواريخ جو-جو متوسطة المدى، والقنابل الموجهة بالليزر، صناعة إسرائيلية. لقد كانت كولومبيا تخطط للحصول على أنظمة دفاع جوي حديثة من دولة الاحتلال أيضا، ويعني هذا باختصار أن كولومبيا لا تحتاج إلى إسرائيل لشراء الأسلحة فحسب، وإنما لصيانتها كذلك (15).

 

يمكن أن يشرح ذلك حجم الضغوط الأمنية التي تجعل كولومبيا، وهي ما زالت تحارب الجماعات المتمردة في البلاد، في موقف يصعب فيه أن تأخذ موقفا راديكاليا من إسرائيل يصل إلى حد طرد السفير، هذا بالإضافة إلى ضغط المعارضة على الرئيس، التي تقول إن ما يفعله يورط بلاده بلا داعٍ في صراع بعيد عن أراضيها، حتى إن بعض المعارضين يقولون إن تصريحاته من جهة لا تفيد غزة، ومن جهة أخرى تضُر بمصالح كولومبيا. بالإضافة إلى ذلك، تُمثِّل الولايات المتحدة نفسها جهة أخرى ضاغطة على بوغوتا، إذ استنكرت الولايات المتحدة بشدة تصريحات الرئيس الكولومبي، ودعته إلى إدانة حماس بسبب قتلها "الوحشي للرجال والنساء والأطفال في إسرائيل" بحسب الوصف الأميركي (16).

 

لربما لا تملك كولومبيا ولا رئيسها اليساري أدوات ضغط ملموسة على دولة الاحتلال، ولكن مع ذلك، اشتعل غضب دولة الاحتلال والولايات المتحدة من تغريدات بِترو إلى حد محاولة دفعه بكل السبل الممكنة لإدانة المقاومة الفلسطينية والكفِّ عن انتقاد إسرائيل، ولعل ذلك الموقف يُوضِّح حجم الخوف الغربي من بداية تمرُّد الدول المتوسِّطة والصغيرة على السرديات التي تفرضها الدول الغربية الكبرى، لا سيَّما أن بوغوتا لطالما كانت حليفا غربيا تقليديا منذ عقود.