غوتيريش في عين العاصفة.. الأمم المتحدة الخاضعة التي تريدها إسرائيل

تجرأ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش بعد 16 يوما من الحرب على غزة ليقول فقط ما يراه وما يشاهده العالم قاطبة، لتأتي تصريحاته كما لا تريد إسرائيل، فشنت ضده حربا شعواء، لكن المنظمة الأممية كانت تاريخيا تكابد في كل ما يتعلق بإسرائيل، وبعض الدول الكبرى التي تريدها عينا لها في رؤية شؤون العالم ونزاعاته وتقرير مصائره.

كان منظر غوتيريش من أمام معبر رفح يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول لافتا إنسانيا، وهو يدعو لدخول مساعدات عاجلة لسكان غزة المحاصرين الذين يتعرضون للقصف الإسرائيلي بلا هوادة. لكنه كان منظرا يثير مزيدا من الدهشة عن عجز المنظمة الدولية عن الفعل أمام إسرائيل ولو بالحد الأدنى.


غوتيريتش طالب بإدخال المساعدات إلى غزة لأنها شريان حياة لمليوني شخص يتعرضون للقصف والحصار (الفرنسية)
لقول الحقائق التي يعرفها ويراها الجميع، ينبغي على الأمين العام للأمم المتحدة أن يمتلك الكثير من الشجاعة، خاصة في ما يتعلق بجرائم إسرائيل وتنكرها للقانون الدولي والقرارات الأممية وللأعراف الدولية ومبادئ القانون الدولي الإنساني، بشكل ما يجب أن تنسى المنظمة الأممية أساس وجودها وتنظر بطرف عين أو عين مغمضة تماما لما تفعله إسرائيل.

الخطوط الحمراء
ولا يصنف الدبلوماسي البرتغالي (74 عاماً) في خانة منتقدي إسرائيل، وليس في تاريخه ما يشير إلى ذلك، في أكتوبر/تشرين الأول 2020 منحه المؤتمر اليهودي العالمي جائزة تيودور هرتزل، (مؤسس الصهيونية الحديثة) ووصفه رئيس المؤتمر رونالد لاودر في حفل التكريم بقوله "على مدى سنوات عديدة، أثبتت أنك صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل".

كافح أنطونيو غوتيريش طوال أيام العدوان الإسرائيلي على غزة ليظل صامتا تجنبا لعاصفة إسرائيلية، كان يعرف أنها ستواجهه إذا تحدث عن حقائق تراها إسرائيل خطوطا حمراء تستدعي الاستثمار فيها.

في إحاطته أمام مجلس الأمن، عبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن قلقه حول "الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني في غزة"، وأكد أن "أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون"، وأوضح أيضا أن "الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاما"، وأن "هجوم حماس لم يأت من فراغ"، محذرا من "العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني".

ورغم أنه قال أيضا في خطابه إنه "لا شيء يبرر الهجمات المروعة من قبل حماس"، فإنه كان قد تجاوز الخطوط الحمراء الوهمية التي ترسمها إسرائيل للأمم المتحدة وموظفيها طوال عقود من الصراع. فندد وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بغوتيريش بحدة، أما سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، فقد دعاه إلى الاستقالة، وكتب منشورا في حسابه على منصة "إكس" قال فيه إن الأمين العام للأمم المتحدة الذي "أبدى تفهّماً للإرهاب والقتل لا يصلح لقيادة الأمم المتحدة".

جاء غوتيريش إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، حاملا معه إرثا تاريخيا من الأفكار المعادية للاستعمار والمنادية بحق الشعوب في تقرير مصيرها، كان الرجل جزءا من "ثورة القرنفل" التي خلعت الدكتاتورية الاستبدادية للجمهورية الثانية في البرتغال (إستادو نوفو) التي أسسها أنطونيو سالازار، منذ عام 1933 وخلفه منذ عام 1968مارسيلو كايتانو رئيسا للوزراء، حين انتمى إلى الحزب الاشتراكي البرتغالي بعيد نشأته عام 1973، وظل ناشطا فيه ومتقلدا مسؤوليات حكومية عديدة في بلده.


 ولسنوات عديدة، كان غوتيريش ناشطا في الاشتراكية الدولية، وهي منظمة دولية تضم الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية، وتولى منصب نائب رئيس المنظمة من عام 1992 إلى عام 1999، ورئيسها من عام 1999 حتى منتصف عام 2005. وشغل منصب رئيس وزراء البرتغال من عام 1995 إلى عام 2002، وكان غوتيريش عضوا في مجلس الدولة البرتغالي من عام 1991 إلى عام 2002، كان لا بد حتى للأفكار الخامدة أن تستيقظ على هول ما يحصل في غزة.

من منظور الأفكار والمبادئ الإنسانية والحقائق على الأرض، كان على غوتيريش أن يتحدث بأكثر من ذلك عن الجرائم الإسرائيلية، لديه في سجلات الأمم المتحدة من التقارير المعلومة والسرية ما هو صادم ومرعب ومثير للاستغراب أيضا عن عجز الأمم المتحدة التاريخي، لكنه كان دبلوماسيا أكثر من اللازم، ومن منظور المصالح والتوازنات التي يعرفها في المؤسسة الأممية، آثر أن يتكلم بأقل قدر ممكن، ولم يسلم مع ذلك من الاتهامات الإسرائيلية.


ومن منظور المصالح، يرجح أن الأمناء العامين للأمم المتحدة قبل توليهم لمهامهم يطلعون على ماضي زملائهم في المنصب، لا شك أن غوتيريش كان يعرف عن الأمين العام للأمم المتحدة السويدي الراحل داغ همرشولد (1953-1961) أو النمساوي الراحل كورت فالدهايم (1972-1981)، و من المفترض أنه درس ملف الوسيط الأممي الكونت برنادوت (20 مايو/أيار 1948-17 سبتمبر/أيلول 1948) رغم أنه لم يكن أمينا عاما، ولا شك أنه كان يعرف أن الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تعد بيضة القبان في عمل المنظمة الأممية طوال تاريخها وفي مسيرة أمنائها العامين وسمعتهم.

 اصطدم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدهايم (1972-1981) -الذي يؤمن بدور الأمم المتحدة العالمي- بإسرائيل عند صدور قرارات أممية مناهضة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا القرارات: 35-122 بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول 1980، الذي أدان إسرائيل لفرضها تشريعاً ينطوي على إحداث تغييرات في طابع ومركز الجولان، والقرار 35-207 بتاريخ 16 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، الذي يُجدد الرفض الشديد لقرار إسرائيل ضم الجولان والقدس، وكذلك القرار 36-147 الصادر في اليوم ذاته، والذي أدان إسرائيل لمحاولاتها فرض الجنسية الإسرائيلية بصورة قسرية على المواطنين السوريين في الجولان.


 وكانت مواقف فالدهايم والمنظمة الأممية المؤيدة نسبيا للحقوق الفلسطينية وإيمانه بعمل الأمم المتحدة البناء سببا في تعرضه إلى اتهامات وضغوط إسرائيلية وأميركية شديدة قوضت فرصه في الترشح لولاية ثالثة على رأس الأمم المتحدة، فقد اتهم بأنه كان ضابطا في الجيش النازي، ومنع من دخول الولايات المتحدة، ورغم نجاحه في الانتخابات النمساوية ليصبح مستشارا للنمسا عام 1986، فإن الاتهامات والحملة العالمية عليه لم تخفت.

بدوره، كان السويدي داغ همرشولد (1953-1961) يعمل على أن تكون المنظمة الأممية محايدة وفعالة، وكان شعاره الأثير أن:

 
 
لم يكن المسؤولون الإسرائيليون يرتاحون لوجود همرشولد بشخصيته الحيادية على رأس المنظمة الأممية. فقد وقف الدبلوماسي السويدي في وجه المساعي الإسرائيلية والضغوط الأميركية أيضا عام 1958 لنشر قوات دولية في البقاع وبين سوريا ولبنان، مؤكداً أن لبنان لم يطلب مطلقاً مثل هذه القوات، وأنه حتى لو حصل ذلك فإن الأمر يستحيل ذلك لوجستيا.

في ذروة الحرب الباردة، والوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) كان ذلك مطلبا إسرائيليا وأميركيا وأطلسيا لا يمر رفضه دون عقاب ودون حملة إعلامية دبلوماسية شرسة تعرض لها همرشولد الذي قتل لاحقا عندما تحطمت طائرته عندما كان متوجها إلى الكونغو يوم 18 سبتمبر/أيلول 1961، في حادث بقي غامضا إلى حد الآن.


 وتعرض البيروفي خافيير بيرير دي كويلار (1982-1991) لحملة إسرائيلية وأميركية ممنهجة على ضوء دعمه لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 176/43 في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988 بخصوص عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، برعاية الأمم المتحدة، وأكد مبادئ لتحقيق السلام الشامل وسيادة الشعب الفلسطيني على أراضيه التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.


 وفي الجلسة نفسها، اعتُمد القرار 43/177 الذي اعتُرف فيه بإعلان دولة فلسطين. وقد استاءت إسرائيل والولايات المتحدة بشدة من دي كويلار على تشجيعه للقرارين، ولقي القراران 43/176 و43/177 تأييدا واسعا من جانب الدول والمنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم وعارضته الولايات المتحدة وإسرائيل.

ورغم أنه لم يعرف بتصريحات أو مواقف ضد إسرائيل، لم يسلم الأمين العام للأمم المتحدة السابق الكوري الجنوبي بان كي مون (2007-2016) أثناء ولايته من الانتقادات الإسرائيلية عندما اتهمه بنيامين نتنياهو نفسه "بتشجيع الإرهاب وأنه لا عذر للإرهاب" بعد تصريحه بأن "إحباط الفلسطينيين يتزايد تحت وطأة نصف قرن من الاحتلال وشلل عملية السلام.. كما أثبتت الشعوب المضطهدة لعدة قرون، من الطبيعة البشرية أن تتفاعل مع الاحتلال، الذي غالباً ما يكون بمثابة حاضنة قوية للكراهية والتطرف".

ولم يسلم أيضا الغاني كوفي عنان (1997-2006) والمصري بطرس غالي (1992-1996) من الاتهامات والضغوط الإسرائيلية خلال عهديهما، وكانت الولايات المتحدة قد رفضت تولي غالي دورة ثانية للأمانة العامة للمنظمة الأممية.


في بداية عمل الأمم المتحدة، دفع أول أمين عام للأمم المتحدة النرويجي تريغفي هالفدان لي (1946-1952) ثمنا للنشاط الحيادي والنزيه للوسيط الذي عينته الأمم المتحدة السويدي الكونت فولك برنادوت.

وكان الكونت برنادوت الوسيط الدولي للأمم المتحدة في فلسطين قد قدم خطة في 27 يونيو/حزيران 1948 تتضمن مجموعة اقتراحات تؤكد أنه "يحق لسكان فلسطين إذا غادروها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم العودة إلى بلادهم دون قيد، واسترجاع ممتلكاتهم، ووضع الهجرة اليهودية تحت تنظيم دولي حتى لا تتسبب في زيادة المخاوف العربية، وكذلك بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية مع منح الطائفة اليهودية في القدس استقلالا ذاتياً في إدارة شؤونها الدينية، إضافة إلى بعض التعديلات الحدودية بين العرب واليهود، منها ضم النقب إلى الحدود العربية والجليل إلى الدولة الإسرائيلية".


 وقد ثار قادة الحركة الصهيونية ضد الأمم المتحدة وأمينها العام ووسيطها الكونت برنادوت وقرار التقسيم الذي أقره (على جوره ضد المصالح الفلسطينية والعربية)، حيث صرح مناحيم بيغن في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وكان آنذاك أحد زعماء عصابة "الإيتسل" الصهيونية "ببطلان شرعية التقسيم، وأن كل "أرض الميعاد" التي تشمل كامل فلسطين الانتدابية (بما في ذلك شرق الأردن) ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد".

عرف لاحقا أن عصابة "شتيرن" بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقا إسحاق شامير (من 1983 إلى 1984 ومن 1986 إلى 1992) اغتالت الكونت برنادوت، لتصبح بعد ذلك عمليات التصفية والاغتيال عقيدة أمنية وسياسة إسرائيلية.

وهكذا منذ تأسيسها، بدأ عمل الأمم المتحدة في فلسطين بجريمة ضد أحد كبار موظفيها الكونت برنادوت، وقيدت ضد مجهول في ملفات الأمم المتحدة ذاتها عندما أقدمت العصابات الصهيونية على اغتيال برنادوت في17 سبتمبر/ أيلول 1948 في القدس، ومنذ ذلك التاريخ تواصلت الضغوط الإسرائيلية على المنظمة الأممية وأمنائها العامين بحملات التشهير والترهيب والاغتيال المعنوي.

المصدر : الجزيرة