إصابات وحروق غير مألوفة تحيّر أطباء غزة
وصل الطفل إلياس أبو شمالة إلى مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة مصابا بحروق من الدرجة الرابعة في مختلف أنحاء جسده، نتيجة سقوط صاروخ إسرائيلي على منزله في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تسبب باستشهاد والدته وأشقائه الثلاثة.
ونجا أبو شمالة (8 سنوات) من الموت بعد تمكن أجهزة الدفاع المدني من انتشاله مصابًا بحروق بمختلف أنحاء جسده، حيث نقل إلى مستشفى ناصر وسط محاولات حثيثة من الأطباء لإنقاذ حياته. واستمرت محاولات الأطباء لأسبوعين، لكن نقص الأدوية والوقود حال دون إنقاذه، حسب تقرير مصور بثته وكالة رويترز، وأكدته قناة الحرة الأميركية التي نقلت وقائع جنازة الطفل المغدور.
وعاين معد التحقيق حالة الطفل أبو شمالة أثناء مكوثه في المستشفى، وحصل على شهادة الطبيب المعالج له، وتبين أنه تعرض لحروق شديدة من الدرجة الرابعة، نتيجة صاروخ إسرائيلي سقط على منزله.
ويعد أبو شمالة واحدا من آلاف الجرحى والشهداء في قطاع غزة الذين أصيبوا بحروق بالغة وغير مسبوقة، وصلت إلى درجة إذابة عظام بعض الشهداء، وفقا لشهادات طبية حصل عليها معد التحقيق. بدوره تحدث وكيل وزارة الصحة بغزة يوسف أبو الريش إلى وسائل الإعلام في 24 أكتوبر/ تشرين الأول قائلا "لدينا مصابون بحروق درجتها 80% مما يدل على استخدام أسلحة جديدة". وهو ما كرره مدير المستشفى الإندونيسي الدكتور عاطف الكحلوت بعد مقتل وإصابة نحو 400 شخص في مخيم جباليا قائلا إن "أغلب الجثث والجرحى مصابون بجروح وحروق بليغة تدل على استخدام أنواع جديدة من الأسلحة".
إلى جانب أبو شمالة الذي عاش أسبوعين بعد إصابته، وثّق معد التحقيق حالة طفل ثان في الخامسة من عمره يدعى أدم رزق النحال نقل إلى مستشفى ناصر جراء إصابته بحروق في الوجه وكافة أنحاء الجسم أدت إلى وفاته بعد سبعة أيام.
إضافى إلى الحالتين اللتين انتهتا بالوفاة، نقلت سارة الآغا إلى قسم الحروق في مستشفى ناصر، وهي مصابة بحروق في يديها نتيجة قصف إسرائيلي استهدف منزلها بمنطقة الشطر الغربي في مدينة خان يونس. وشخص أطباء قسم الحروق في مستشفى ناصر الذين التقاهم معد التحقيق حالة سارة بأنها مصابة بحروق من الدرجة الثالثة.
وتكررت الأعراض ذاتها وبصورة أكثر شدة في مخيم الشاطئ شمالا عندما أدى قصف إسرائيلي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول إلى هدم منزل من 3 طبقات وإبادة أسرة يصل عدد أفرادها إلى 26 فردا جميعهم من آل البهلول. ونقل حساب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة على فيسبوك عن شاهد عيان وصفا لحالة الجثث التي استخرجت من منزل آل بهلول.
وحسب الأطباء، تعد حالة سارة الآغا غريبة وغير مألوفة لهم كحال المئات من الحالات الأخرى، حيث يكون الحريق في اليوم الأول لوصول المريض بحالة مستقرة، ثم يبدأ باليوم الثاني والثالث بالتعمق داخل الجسم مما يتسبب في مضاعفات كبيرة للجرحى.
تذويب الجلد
رئيس قسم الجروح في مستشفى الشفاء، الدكتور أحمد المخللاتي، أكد أن عددا من جرحى الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة وصلت الحروق إلى عظامهم وتسببت بذوبانها وصهرها، وهي حالات غير مسبوقة لم تمر على القطاع الصحي بغزة.
وحسب حديث المخللاتي لـ"الجزيرة نت" تجاوزت درجة الحروق التي أصابت بعض الجرحى الذين وصلوا مستشفى الشفاء إلى 70%. ويوضح أن بعض جرحى القصف الإسرائيلي استشهدوا على أسرة مستشفى الشفاء بغزة لعدم قدرة الأطباء على التعامل مع الحالات نتيجة درجة الحروق الكبيرة وغير المعروفة.
ووصلت بعض الحالات إلى مستشفى الشفاء عبارة عن جثث متفحمة تماما بسبب الحروق الكبيرة التي أصابتها نتيجة صواريخ وقنابل إسرائيلية، وفقا لتأكيدات المخللاتي.
ولا يوجد قدرة لدى النظام الصحي في قطاع غزة، وفق المصدر ذاته، على أخذ عينات من جرحى الحروق للوصول إلى نتائج علمية تظهر أنواع الأسلحة التي تسببت بحروق كبيرة لهم. ويبين المخللاتي أن قسم الحروق في مستشفى الشفاء لم يعهد له التعامل مع حالات مماثلة، وذلك نتيجة لاستخدام جيش الاحتلال صواريخ وقنابل لأول مرة ضد قطاع غزة.
ويؤكد رئيس قسم الحروق في مستشفى الشفاء، أن القنابل والصواريخ المستخدمة ضد المدنيين في غزة هي أميركية وجديدة تستخدم لأول مرة ضمن ما يعتقد محليا بأنه سياسة التجارب على الفلسطينيين.
منظمة أطباء بلا حدود، أكدت بدورها أن حالات الحروق التي تعامل معها طواقمها بغزة نتيجة الحرب من الدرجة الثالثة، وهي حالات عميقة جدا وصلت إلى الأنسجة الداخلية.
وحسب حديث نائب المنسق الطبي للمنظمة في قطاع غزة، محمد أبو مغصيب للجزيرة نت، فإن حالات الحروق نتيجة الحرب على غزة كانت نادرة جدا في السابق، ولكن الآن باتت تسجل بإعداد كبيرة.
وحول استخدام أسلحة كيميائية، يقول المسؤول في المنظمة التي تعالج مرضى الحروق في قطاع غزة منذ عام 2011: "لا يمكن الجزم في هذا الموضوع ويحتاج الأمر إلى خبراء في مجال الإصابات الكيميائية". لكنه يؤكد أن حالات الحروق التي تعاملت معها طواقم المنظمة بليغة جدا.
الفسفور الأبيض الحارق فوق أحياء غزة
مقابل الرد المتحفظ لأطباء بلا حدود أعربت "هيومن رايتس ووتش" في بيان صادر في 12 أكتوبر/تشرين الأول عن استهجانها لاستخدام الجيش الإسرائيلي مادة الفوسفور الأبيض الحارق في عمليات القصف التي شملت مناطق مأهولة في جنوب لبنان وغزة. وقالت لمى فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمنظمة في تصريح نشر على موقعها: "كل مرة يُستخدم فيها بمناطق مدنية مكتظة، يشكّل الفوسفور الأبيض خطرا كبيرا يتمثّل بإحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة. الفوسفور الأبيض عشوائي بشكل غير قانوني عند انفجاره جوا في مناطق حَضَرية مأهولة، حيث يمكن أن يحرق المنازل ويلحق ضررا فادحا بالمدنيين".
وأشارت المتحدثة إلى أن هيومن رايتس ووتش راجعت فيديوهات أرسلت إليها من غزة وتحققت من أنها صُوِّرت في ميناء مدينة غزة وحددت الذخائر المستخدمة في الغارة على أنها قذائف فوسفور أبيض من مدفعية عيار 155 ملم وتنفجر جوا. وقالت أيضا إن فيديوهات أخرى منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي وتحققت منها هيومن رايتس ووتش أظهرت الموقع (المستهدف) نفسه.
أسلحة كيميائية
من جهته، يؤكد رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، سلامة معروف ذهب، أن هناك مؤشرات لاستخدام الاحتلال الإسرائيلي أسلحة غير تقليدية في حربه المستمرة على القطاع. ويبين في حديث لـ"الجزيرة"، أن الاحتلال استخدم الفوسفور الأبيض أكثر من مرة في عدة مناطق تعد الأعلى كثافة سكانية في العالم بقطاع غزة، وهو سلاح محرم دوليا.
ويوجد لدى الجهات الرسمية في غزة، وفق معروف، دلائل تظهر نسب حروق عالية وغير معهودة في كل الحروب التي شنت سابقا على قطاع غزة، حيث هناك جرحى وشهداء أزيلت طبقات كاملة من جلدهم بفعل الصواريخ والمتفجرات الإسرائيلية.
ولا يستبعد رئيس المكتب الإعلامي الحكومي استخدام الاحتلال الإسرائيلي أسلحة كيميائية ضد سكان قطاع غزة خلال حربه المستمرة، مؤكدا أن الطب الشرعي يواصل البحث للتوصل إلى تأكيدات حول ما تم استخدامه.
ووصلت بعض جثامين الشهداء في حالة تفحم، وباتت تصل حالات أزيلت منها الأطراف العلوية والسفلية للجرحى والشهداء، وما هو مخيف عدم قدرة الطواقم الطبية على تشخيص نوعية وطبيعية المواد المضافة على الأسلحة والمتفجرات، والحديث لمعروف.
ويشير إلى أن غالبية الإصابات التي تصل بحالات حروق عالية تستشهد، بسبب عدم قدرة الطواقم الطبية على التعامل معها أو تقديم الرعاية اللازمة لها وأن تكون مجدية في تلك الحالات، وهو دليل على استخدام الاحتلال ذخائر محرمة دولية.
ويوجد تقديرات لدى الجهات الرسمية بغزة، كما يؤكد معروف، أن الاحتلال استخدم نوعيات جديدة من الأسلحة والذخائر ضد سكان قطاع غزة مصدرها الولايات المتحدة وتم تسليمها حديثًا لـ"إسرائيل".
معطيات ميدانية
جمع معد التحقيق في قطاع غزة بعضا من شظايا الصواريخ والقنابل التي ألقيت على عدة منازل بغزة، ووجد أجزاء منها مكتوب عليها "إم كيه-80". كما رصد معد التحقيق إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي قنابل الفوسفور الأبيض داخل مناطق مكتظة بالسكان في قطاع غزة وتحديدا في أبراج المخابرات شمال المدينة.
والفوسفور الأبيض واحد من مشتقات مادة الفوسفور، ويتميز بصلابته وقابليته الشديدة للاشتعال، وبكثافة الأدخنة المنبعثة من احتراقه، وقدرته الهائلة على امتصاص الرطوبة في الهواء وفي الأنسجة الحية، وله قدرة هائلة على تدميرها، وهنا مكمن خطورته على الأشخاص، إذ يتسبب في الاختناق والحروق الشديدة في آنٍ واحد.
وتختلف القنبلة الفوسفورية -في تركيبتها الكيميائية- جذريا عن قنابل النابالم التي تُشكل المشتقات النفطية قاعدتها الأهم، ورغم ذلك فإن القنبلة الفوسفورية لها قدرة تدميرية أكبر بكثير من النابالم، وإن كانت القنبلتان تنتميان للقنابل الحارقة التي تُحرم القوانين الدولية استخدامها في المناطق المأهولة بالمدنيين في أوقات الحرب.
النابالم على المناطق المدنية
وفي عام 1983 حظرت الأمم المتحدة استخدام القنابل الفوسفورية والنابالم في المناطق المدنية، وصنفت هذا الاستخدام في خانة جرائم الحرب.
وتتميز القنبلة الفوسفورية أولا بتأثيرها النفسي الشديد، فشدة وميضها والغازات المنبعثة منها لهما تأثير مشهود على العدو، وهو ما تؤكده مذكرات قادة الوحدات الذين خاضوا حروبا استُخدم فيها هذا السلاح الفتاك، بدءا من الحربين العالميتين الأولى والثانية ومرورا بحرب فيتنام ووصولا إلى غزو العراق.
وفضلا عن العامل النفسي، تتمتع القنبلة الفوسفورية بقدرة تدميرية هائلة، تتمثل في إحداث حرائق كبيرة قد تمتد إلى مئات الهكتارات، حتى إن الجيش الأميركي استخدمها خلال حرب فيتنام لحرق الغطاء النباتي الكثيف في الأدغال التي كان يتحصن فيها المقاتلون.
الرأي العسكري
الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري أكد أن ذخائر الهجوم المباشر المشترك -التي تقصف بها إسرائيل قطاع غزة- تعد صواريخ قديمة جرى تعديلها وباتت صواريخ موجهة وذكية لإحداث دمار مقصود.
وأوضح الدويري -خلال تحليله العسكري لتطورات الأوضاع في غزة على قناة الجزيرة- أن مقاتلات "إف-15" تحمل هذا النوع من الصواريخ، وهي قذائف قديمة من ستينيات القرن الماضي تحمل اسم "إم كيه"، وهي "إم كيه-84" و"إم كيه-83" و"إم كيه-82" و"إم كيه-80".
ولفت إلى أن القوات الأميركية حولتها إلى قذائف ذكية بعدما زودتها بنظام "جي بي إس"، مبينا أن وزن المتفجرات بصواريخ "إم كيه-84" يقدر بنصف طن ويصل دائرة تأثيرها إلى 365 مترا، بينما تصل القيمة إلى النصف فيما يخص صواريخ "إم كيه-82" من حيث القدرات التأثيرية والوزن والمتفجرات.
وكشف الخبير العسكري أنه يفترض أن تكون هذه القنابل "ذكية"، ولكن بناء على الدمار الذي يحدث يعتبر التوجيه "مقصودا"، مؤكدا أنه يفترض أن يتناسب المقذوف مع الهدف "لذلك فهناك عملية تدمير ممنهجة".
وأوضح أن هذه الصواريخ يفترض أنها تستخدم 3 أنواع من الفيوزات بعد التعديل، الأول "الفيوز الصادم" الذي ينفجر بمجرد الاصطدام، والثاني يخص "الفيوز التأخيري" الذي يستخدم لقنابل الأعماق، في حين يتعلق الثالث بـ "الفيوز التوقيتي".
ورجح الدويري أن تكون مجزرة استهداف قوات الاحتلال لمستشفى المعمداني في غزة -التي راح ضحيتها أكثر من 470 شهيدا- قد تمت بصاروخ "إم كيه-84" مزود بفيوز توقيتي انفجر على ارتفاع معين.
(الجزيرة نت)