حين يضع الشعب الأمريكي يده على الوجع!

 
 

تنتشر في أميركا حاليا حملة شعبية تطالب الناس بسحب نقودهم من البنوك، وعدم إرجاعها إلا بشرط توقّف الإدارة الأمريكية عن تقديم الدعم إلى الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية المفتوحة التي يشنّها على الشعب الفلسطيني في غزّة.

الأمريكيون، معقل النظام الرأسمالي العالمي وحصنه المنيع في طوره الحالي، يضعون أيديهم على الوجع، وعلى مكمن قوة ومكمن ضعف هذا النظام في آن واحد.

الرأسمالية هي نظام استغلالي استعماري بالضرورة، ولكن هذا شرح يطول.

والرأسمالية لا يوجد فيها لا نظريا ولا عمليا صيغة رابح - رابح، بل من أجل أن يكون هناك "أقليّة" رابحة لا بدّ أن يكون هناك "أغلبية" خاسرة.

والرأسمالية والصهيونية هما وجهان لعملة واحدة من حيث النظر إلى كلّ شيء في الحياة كـ "مادة استعمالية" بما في ذلك البشر أنفسهم، وعدم إقامة وزن لأي قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية إلا بمقدار قابليتها لـ "التكييش" وفق حسابات "الربح و"الخسارة" وقوانين السوق الماديّة البحتة.

والقلّة القليلة من الأثرياء الذين يمتلكون ويتحكّمون بحوالي (80%) من الثروة الموجودة في العالم، لا يختلفون عن فكرة "شعب الله المختار" الذي يستبيح جميع "الأغيار" ويسخّرهم من أجل مجده ورفاهه.

وفي النظام الرأسمالي الحديث، السياسي هو واجهة الاقتصادي، أو بحسب التعبير الشائع السياسة هي "القفاز" الذي يرتديه الاقتصاد.

وإذا كانت جميع الصراعات التي يشهدها العالم حاليا هي في جوهرها صراعات اقتصادية، وصراعات مصالح، بغض النظر عن واجهتها القومية أو الإثنية أو الدينية أو حتى المَدَنيّة (مثل الثورات البرتقالية)، فإنّ البنوك، والنظام المالي والمصرفي العالمي (بصناديقه السيادية وبورصاته)، هي بمثابة "عقل" النظام الرأسمالي العالمي وجهازه العصبي المركزي، والسلاح الأخطر من بين ترسانة أسلحته وأدواته.

البنوك هي أخطر أداة للتحكّم، والسيطرة، والابتزاز، والإخضاع، وسلب الفائض والمُلكيّة الخاصة والحريّة.

وهي تتّجه نحو مزيد من الخطورة والشراسة مع التحوّل أكثر وأكثر نحو النقد الإلكتروني والدفع الإلكتروني، ولكن هذا أيضا شرح يطول.

ولا فرق بين الأفراد والمؤسسات والدول عند الحديث عن خطورة البنوك، وهذا الكلام لا يحتاج إلى خبراء في الاقتصاد، فكل شخص مدين لبنك، أو جرّب أن يكون مدينا لبنك، يعرف حقيقة ذلك تماما.

وجميعنا شاهدنا منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية كيف أنّ حرب المال، وحرب البنوك، وحرب النقد، وحرب أنظمة التبادل والدفع الدولية، وحرب الأصول.. هي جميعها في قلب هذا الصراع.

وحتى في حرب الكيان الصهيوني على غزة، نجد المصالح الاقتصادية والمال والأعمال والبنوك حاضرة بقوة.

فشطب الديون الخارجية على سبيل المثال هي أداة الإغراء (أو الابتزاز لا فرق) التي يتم استخدامها من أجل الضغط على مصر للقبول بمخططات تهجير أهالي غزة إلى سيناء وتصفية القضية الفلسطينية.

والنيّة المبيّتة لسلب غاز غزّة كاملا دون إعطاء الفلسطينيين حصتهم فيه، وتمهيد الأرضية لمشاريع "السلام الاقتصادي" الموعود بدون وجود "معوّقات"، والصراع العالمي على الموانئ والممرات البحريّة والبريّة.. هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء حرب الدول الرأسمالية الاستعمارية على غزّة، والتي من أجلها يتم شرعنة وتبرير وتسويغ الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ترتكبها ماكينة القتل الصهيونية.. وفي المقابل تتم شيطنة المقاومة، وإهدار دم شعب بأكمله، وإنكار حقّه بالوجود والدفاع عن النفس والعيش وتقرير المصير على ترابه الوطني.

حملة مقاطعة البنوك في أميركا قد تكون أخطر حالة وعي تمخّضت عنها حرب الإبادة على غزّة، وغالبا ستتم محاربة وقمع هذه الحملة بشراسة قد تبدو مستغربة ومبالغ فيها للكثيرين.

ففي حال نجاح هذه الحملة، وتوسّعها، وانتشارها بحيث تعمّ مختلف شعوب العالم.. فإنّها ستشكل خطرا "وجوديّا" على النظام الرأسمالي العالمي بصورة قادرة على شلّ حركته، وتجفيف منابع قوته الحقيقية بغض النظر عن المقوّمات العسكرية التي يمتلكها، و"إرادة القوة" لاستخدام هذه المقوّمات.

وإذا صاحب هذه الحملة مقاطعة للدولار تحديدا، ومقاطعة لـ "البترو - دولار"، وإنضمام مؤسسات ودول إلى الحملة.. فإنّ هذا سيعني ببساطة إصابة النظام الرأسمالي العالمي الحالي في مقتل.

الحملة الأمريكية لمقاطعة البنوك تشي أيضا أنّ الأمريكيين، وقطعا غيرهم من الشعوب، قد فهموا أحد أكثر الدروس القيّمة التي علمتنا إيّاها غزّة:

أنتَ عندما تريد أن تضرب عدوّك فإنّك تضربه حيث يؤلمه، والبشر والشعوب للأسف لا يؤلمون لا الكيان الصهيوني، ولا حلفاءه الذين يدعمونه، ولا النظام الرأسمالي الاستعماري العالمي الذي يمثّل الكيان واجهة لمصالحه في المنطقة.

ما يؤلم هؤلاء هو "البزنس" والنقود فقط، والشعوب الراغبة بالانعتاق إذا أرادت أن تؤذيهم فعليها أن تؤذيهم هناك:

- مقاطعة البنوك (كما تدعو الحملة الشعبية الأمريكية).

- مقاطعة السلع والماركات العالمية (وهي الحملة التي يتم شيطنتها ومحاربتها هي الأخرى).

- مقاطعة كلّ استثمار و"بزنس" يمتّ لأمريكا والدول الاستعمارية بصلة.

- مقاطعة أدوات القوة والسيطرة "الناعمة" التي تسخّرها الدول الاستعماريّة لصالحها (صناعة الترفيه والإعلام، الفنون، الرياضة، الموضة، منظمات المجتمع المدني، المؤثرين والمشاهير.. الخ).

يقول الله تعالى في الآية (275) من "سورة البقرة":

"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".

من البركات التي لا تعدّ لغزة وأهلها ومقاومتها وصمودها الأسطوري، أنّها جعلت الشعب الأمريكي، أكثر شعب "ممسوس" في هذا العالم، يدرك المعنى العميق الكامن في هذه الآية الكريمة!

حبّذا لو أنّ الأمريكيين يتخذون هذه الآية شعارا لحملتهم!