مليشيات بن غفير المسلحة وسيناريو التهجير.. ما هي احتمالات وقوع حرب بين الأردن واسرائيل؟
تفرض الأحداث الدائرة في قطاع غزة، وتداعياتها السياسية والإقتصادية والأمنية، على الأردن، إعادة حساباته مع كيان الاحتلال، والعمل على توفير البدائل الإقتصادية والحيوية التي تأتي عبر النهر، من موارد محلية وعربية، حتى لا تظل الاتفاقيات مع الإحتلال، سيفاً مسلطاً، ووسيلة ضغط على المملكة بغية اضعافها.
الموقف الأردني تجاه حرب الإبادة التي تشنها ترسانة الإرهاب الصهيونية في غزة، يتقدم على جميع المواقف العربية والاسلامية، مثلما ظل يتقدم عليها في القضية الفلسطينية عموماً، ومدينة القدس المحتلة خصوصاً، فقد اتخذ الأردن منذ بدايات العدوان قراراً بمنع سفير الكيان من الدخول لأراضيه، وسحب السفير الأردني من تل ابيب، زامنه حراك دبلوماسي يومي ومتواصل، قاده الملك عبدالله الثاني، بلقاءات واتصالات مكثفة مع الدول العربية والاسلامية والغربية، لتحشيد موقف مضاد لجرائم الاحتلال، وتفنيد روايته الكاذبة التي دعت الملك في وقت سابق إلى رفض لقاء مع الرئيس الامريكي جو بايدن، الذي كان في طريقه إلى عمان، لتسويق ذات الرواية.
الموقف الأردني تعدى اللغة الدبلوماسية التقليدية، إلى لهجة عسكرية مباشرة، حذرت فيها أرفع المستويات السياسية في المملكة، من مغبة السياسات الاسرائيلية المتطرفة التي قد تفرض على الأردن حرباً مفتوحة.
المواجهة العسكرية الاردنية مع كيان الاحتلال، لم تتطرق لها القيادة الأردنية من باب تسجيل المواقف، واستدار الشعبويات، ولا من باب الترف السياسي والإعلامي الفارغ، بل هي حقيقة مؤكدة، قد تنجلي في أي لحظة، خاصة مع احتمالات مرجحة حول نية كيان الاحتلال تنفيذ مخطط تهجير في الضفة الغربية، يبدأ بنشوب مواجهات عارمة في الضفة الغربية، تؤشر عليها حملة التسليح المسعورة لمئات الآلاف من المستوطنين التي يشرف عليها اكثر وزراء حكومة الحرب الصهيونية تطرفاً، إيتمار بن غفير، ومن المؤكد أن هذا التسليح المنظم سيحول المستوطنين المتطرفين إلى مليشيات مسلحة، سماها بن غفير ذاته بـ"الحرس الوطني"، ومن المؤكد أيضاً أن هذه المليشيات لن تستخدم أسلحتها إلا لارتكاب الجرائم والمجازر في قرى ومدن الضفة الغربية، ضمن مخطط تفريغها، وتهجير سكانها، وهي القضية الأخطر التي يعتبرها الاردن خطاً أحمر، وتفتح أبواب الجحيم في المنطقة.
ما يعزز هذه الفرضية، خبر كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" بأن حكومة الإحتلال طلبت 24 ألف بندقية هجومية من الولايات المتحدة، الأمر الذي أثار حفيظة نواب في الكونجرس، ومسؤولين في وزارة الخارجية الامريكية، خوفاً من استعمالها في تهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية!
في خضم ذلك، فإن خطوط التماس الأردنية الاسرائيلية على كف عفريت، والعلاقة بينهما أصبحت كالمشي في حقل من الالغام، قد تتفجر في أي لحظة، خاصة وأن العلاقات الدبلوماسية وصلت إلى أسوأ حالاتها في عهد نتنياهو وحكومته الدموية المتطرفة، ولا يخفى على الأوساط السياسية والدبلوماسية أن علاقة الملك عبدالله الثاني مع رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الحالي لم تكن يوماً بخير، وبلغ الجفاء مع الكيان ذروته، بعد انسداد أفق حلول القضية الفلسطينية جراء التعنت والغطرسة الاسرائيلية، واستمرار جرائم الإحتلال في المدن الفلسطينية وعلى رأسها قطاع غزة، محاولات الإحتلال الدائمة العبث في الوضع القائم بمدينة القدس المحتلة، وتهويدها، واستمرار بناء المستوطنات، وقضم الأراضي الفلسطينية، وأيضاً، مواصلة حملة الانتهاكات والاعتداءات الوحشية المسعورة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة المقدسة التي تحظى بالوصاية الهاشمية.
أحد خطوط التماس، اشتعل فتيله قبل أيام، بعد أن طلب كيان الإحتلال من الأردن سحب طاقم المستشفى الميداني في قطاع غزة، الذي يقوم بتقديم خدمات إغاثة طبية وعلاجية لسكان القطاع المنكوب، في رسالة مماحكة مبطنة من حكومة الإحتلال الغاضبة من الموقف الاردني المتشدد حيالها، ليرد الأردن بارسال طائرات "هيركوليز" العملاقة إلى أجواء القطاع التي قامت بإسقاط مساعدات طبية ودوائية بالمظليات فوق المستشفى الميداني الأردني ذاته، بدلاً من اخلائه، في عملية بطولية أعلن وأشرف عليها الملك عبدالله الثاني بشكل مباشر.
من الواضح أن حكومة الإحتلال اعتبرت الخطوة الأردنية تحدياً مباشراً لها، سيما مع الموقف الأردني الحازم والواضح، الذي أعلنه الملك عبدالله الثاني مرات عدة، وأعاد التأكيد عليه، رئيس الحكومة بشر الخصاونة، ونائبه وزير الخارجية أيمن الصفدي، بأن الأردن سيعتبر أي محاولات اسرائيلية لتهجير الأشقاء الفلسطينين من قطاع غزة أو الضفة الغربية، بمثابة إعلان حرب على المملكة، وستفتح أبواب المواجهة على مصراعيها.
إيقاع الأزمة واصل ارتفاعه، بعد قيام قوات الإحتلال بقصف محيط المستشفى الميداني الأردني، وتسببت في إصابة سبعة من الأردنيين العاملين فيه، وكانت بمثابة رسالة ثانية إلى الأردن، الذي صعّد بدوره فوراً، ورد على لسان وزير الخارجية، بأن المملكة لن توقع اتفاق تبادل الطاقة والمياه مع كيان الإحتلال الذي كان من المقرر توقيعه الشهر الماضي، بل أنه اعتبر اتفاقية "وادي عربة" كلها قد أصبحت في خضم العدوان على غزة، مجرد "وثيقة على الرف يغطّيها الغبار".
بموازاة الموقف الرسمي الأردني، تماهى الموقف الشعبي معه، وتسابق الموقفان في السخط على جرائم الإحتلال البربرية في قطاع غزة، وفي مناصرة الفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة وحشية، فيما تعيش البيوت والعوائل الأردنية متفاعلة على مدار اللحظة مع ما يحدث هناك، وبلغ غضب الأردنيين من الفظائغ التي ترتكب بحق اشقائهم الفلسطينيين ذروته، ولا تكاد تخلو شوارع المملكة كل يوم من جنوبها إلى شمالها من مسيرات احتجاجية ساخطة على جرائم الاحتلال، ومناصِرة للمقاومة الفلسطينية الباسلة التي تقاتل بشكل اسطوري، فتناغم الشارع وقواه السياسية، من موالاة ومعارضة، مع الموقف الرسمي، والتف خلفه، بشكل متّن الجبهة الداخلية، ورفع منسوب لحمتها بشكل غير مسبوق مطلقاً.
ربما يكون أفضل استثمار لهذه الحالة الشعبية والرسمية الأردنية المتناغمة، بالبناء عليها، والعمل بأقصى جهد وطاقة، لتوفير كافة البدائل التي تمكّن الأردن من الإعتماد على موارده الداخلية، واستبدال الموارد التي فرضتها المعاهدات مع كيان الإحتلال، بأخرى محلية، وعربية، والعمل على هذا الملف كأولوية وطنية عاجلة، خاصة وأن أفق الأحداث الدائرة في غزة مرشحة لاتساع نطاقها، الأمر الذي يفرض على صانع القرار الأردني وضع جميع السيناريوهات على طاولته، وبناء خطط إدارة الازمات وفق أسوأ الاحتمالات الممكنة، لاستيعابها، واحتوائها، وامتصاص آثارها، بأقل قدر من الخسائر، وأعلى هامش من المكاسب.
وضع ملفا الغاز والمياه على رأس الأجندة الحكومية، أصبح ضرورة وطنية ملحة وبالغة الأهمية في هذه المرحلة، فهما الملفان الأبرز في اتفاقات الأردن مع كيان الإحتلال، حيث تستقدم المملكة سنوياً 35 مليون متر مكعب من المياه وفقاً لمعاهدة وادي عربة، و 10 ملايين إضافية أتفق عليها في العام 2010، وستستورد 45 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال 15 عاماً، بقيمة بلغت 10 مليارات دولار، ضمن اتفاقية أخرى وقعت في كانون الثاني من العام 2020.
المصلحة الوطنية العليا، والأمن القومي الأردني، وتحصين السيادة الوطنية، يفرض على صانع القرار اليوم إيجاد البدائل المناسبة، وعدم الركون إلى كيان الاحتلال الذي لا يراعي اتفاقيات ولا معاهدات، وقد ينقلب في طرفة عين على الأردن، وسبق للعشرات من الخبراء الأردنيين الأكفاء في مجالي الطاقة والمياه، أن وضعوا العديد من الحلول البديلة التي لن يسهب النص بسردها، لفك الإرتباط الإقتصادي مع الكيان، وعدم الإعتماد عليه في قضايا حيوية مصيرية.
إن الحصافة السياسية تقتضي على الحكومة الأردنية أن لا تتعامل مع الأحداث المهولة التي تشهدها المنطقة حالياً بسياسة "التدرج وفق المتغيرات"، بل بناء استراتيجية تفترض الأسوأ، ويحتم عليها الإعلان على أنها في حالة انعقاد دائم، لمتابعة الأحداث الدائرة لحظة بلحظة، وتقدير الموقف على مدار الساعة، وتمحيص جميع الاحتمالات، ووضع خطط قابلة للتنفيذ الفوري، وإقرار الخيارات البديلة الفورية، للتعامل مع أي طارىء؛ فالاردن القوي بمواقفه التاريخية الأصيلة، يحتاج اليوم أكثر من أي يوم في تاريخه، إلى استنهاض الهمم، ورفع حالة التأهب إلى أقصى درجاتها، واجتراح الحلول الاستثنائية الخلاقة، لعبور المرحلة بالغة الخطورة، بأعلى مواقف الدعم والإسناد، للأشقاء في فلسطين المحتلة، وأعلى درجات اليقظة الداخلية، واستنفار الجهود الوطنية المخلصة الدؤوبة، لضمان بقاء الأردن قلعة حصينة، تتحطم على أسوارها كل الصعاب والتحديات.