حسناً فعل العرب، فقضية فلسطين لم تعد عربية...
فشل العرب في تحويل قضية فلسطين إلى قضية إنسانية عالمية عابرة للحدود والقارّات منذ العام 1948. خسرت الدول العربية الحرب واستولت إسرائيل على مراحل على 85% من أراضي فلسطين. كما فشلت في الأمم المتحدة في تحقيق اقتراحها القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة فلسطينية عربية وواحدة يهودية بموجب القرار 181 الصادر في العام 1947. ومنذ ذاك التاريخ وحتى اليوم كان الفشل على طريق تحقيق الدولة الفلسطينية يتراكم، فيما نجحت إسرائيل بزيادة حضورها وتأثيرها وقدراتها حتى وصلت إلى قلب العالم العربي من خلال دعوات التطبيع والسلام وتَلاقي الأديان وتسامحها.
تستحقّ دعوات التسامح بين الأديان التوقّف عندها طويلاً، خصوصاً مع تصاعد موجات التطرّف الديني، وكان يمكن لهذا التسامح أن يكون فعلاً نافذة أمل ورجاء لولا ما شهدناه أخيراً من توظيف للعقيدة اليهودية في الحرب على غزة واستحضار نصوص توراتية وحتّى طقوس خاصّة لمباركة قتل الأطفال واستهداف المستشفيات والمدارس وحتى الحيوانات، في مشهدية تذكّر بسلوكيات داعش في تبريرها لكلّ الإرهاب الذي ارتكبته وإلباسه لبوس الدّعوة والرسالة.
ولكن العرب نجحوا في عقد قمّتين في قمّةّ، قمة عربية وأخرى إسلامية، ولو بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة والتي أسفرت حتّى اليوم عن سقوط ما يقارب الـ 12 ألف ضحية ثلثهم من الأطفال، وإصابة عشرات الآلاف بجروح وحجم دمار لا يمكن تصوّره. نجح العرب في عدم اتخاذ أيّ إجراء لوقف ما يحصل من سفك للدماء، وأثمرت القمة مواقف شجب وإدانة ودعوات لوقف إطلاق النار. بدت القمة العربية بالأمس القريب وكأنها نفسها التي خاطبها عبد القادر الحسيني في رسالته إلى أمينها العام آنذاك عبد الرحمن العزام في العام 1948: "إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح...". نجح العرب في تمرير القمة من دون تحمّل أيّ مسؤولية حيال ما يجري من حرب طاحنة. لا حديث عن استخدام النفط كوسيلة ضغط، لا تلويح بطرد سفراء، لا تجميد للاتفاقيات الموقّعة بين عدد من الدول العربية مع تل أبيب، ولا حتّى موقف من القواعد الجوية الأميركية في بعض هذه البلدان، والتي يتمّ استخدامها كما استخدام مجالها الجوي كجسر إمداد لإسرائيل بالعتاد العسكري والذخائر. نجح العرب بالتخفّف من هذا الحمل الثقيل الذي كان اسمه القضية الفلسطينية، حيث تعاملت بعض الدول مع ما حصل بالمساواة بين الاحتلال وأصحاب الأرض، كان واضحاً أنّ العرب تعاملوا مع ما يجري انطلاقاً من الموقع الجغرافي ليس إلّا. وفي اليوم الذي سبق القمة كما في اليوم التالي عادت الحياة إلى طبيعتها في ربوع تلك الأوطان وكأنّ شيئاً لم يكن. وطبيعة الحياة في بعض العالم العربي تعني غياب التظاهرات التضامنية مع أي قضية لا تنسجم مع توجهات القيادة، إنها الديمقراطية العربية في أبهى صورها.
حسناً فعل العرب، فقضية فلسطين لم تعد عربية. ولا بد من التنويه بنجاح إسرائيل في هذا المجال بتوجيه صفعة إلى العالم أجمع دفعت المواطنين من أقاصي الأرض إلى الاستيقاظ من سبات عميق. هذه هي إسرائيل التي عرفوها بصورة الضحية المتباكية الخائفة من جيوش عربية جرّارة تتفوّق على نفسها في حجم ما ارتكبته من مجازر على الهواء مباشرة، ومن دون اعتبار لأيّ جيش كانت تدّعي الخوف منه. ها هي إسرائيل تظهر للعالم حجم الدعم الذي تحظى به من أقوى دول العالم. أميركا أرسلت حاملتي الطائرات "يو أس أس جيرالد فورد" و"يو أس أس أيزنهاور" وسفن دعم لهما، ونحو 2000 من مشاة البحرية، فضلا عن بطاريات "ثاد" وبطاريات إضافية من نظام "باتريوت". أما بريطانيا فوجهت سفينتين تابعتين للبحرية الملكية وطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم إسرائيل وتعزيز الأمن الإقليمي ومنع أي تصعيد. وعلى هذا القياس تحولت المياه الإقليمية إلى ترسانة غربية لدعم إسرائيل التي ترتكب كل يوم المجازر والتي لم توفّر الأطفال حديثي الولادة في المستشفيات من دون أن ننسى المراسلين الصحافيين في مناطق النزاع. إسرائيل كشفت عن وجهها الحقيقي لكل من كان يجهله وبيّنت أنها هي من يهدّد جيرانها وإن لم يكن تهديدها كافياً تتولى واشنطن إكمال المهمة عنها.
نجحت إسرائيل بإعادة إحياء القضية الفلسطينية وحشدت لها الدعم الشعبي على صعيد العالم
هبّة أوروبا لدعم الكيان الإسرائيلي من خلال منع وقمع التظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار بداية والسماح للمظاهرات المؤيدة لإسرائيل من رفع الشعارات والهتافات التي تريد. محاولة تصوير كل انتقاد لإسرائيل وما تمارسه من جرائم حرب على أنّه معاداة للسامية وسنّ التشريعات والقوانين المشدّدة لقمع أي صوت ضدّ إسرائيل. واشتراط دول أخرى الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود للحصول على جنسيتها. كلّ هذه الممارسات أيقظت عند شعوب هذه الدول أسئلة ومخاوف، كيف أصبحت الديمقراطية الغربية وحرية التعبير مفصلة على قياس إسرائيل وحقها دون غيرها. لماذا يذهب كل هذا الدعم لدولة في قارة أخرى تقوم بارتكاب المجازر ضد من يطالب بحقه في دولته حتّى لو في حدودها الدنيا التي أقرّتها الأمم المتحدة؟ لماذا لم تتخذ قرارات دولية حاسمة وحازمة لوقف موجات الاستيطان التي كان الإدارات الغربية نفسها تقول أنّها تهدّد عملية السلام في المنطقة؟
في الغرب لا ينظر المواطنون على اختلاف معتقداتهم إلى ما يحصل في غزة من زاوية حماس أو الإخوان المسلمين أو إسرائيل أو اليهود. هم ينظرون إلى صورة الأطفال في غزة وحجم معاناتهم، يراقبون ارتجاف واهتزاز أجسادهم الصغيرة من الخوف، وتهتزّ معها أساسات كلّ الروايات الملتوية للأحداث التي كانت تصلهم عن الصراع الفلسطيني. بعضهم لم يكن يعرف التاريخ قبل 7 تشرين الأول، وها هو يعود إلى وعد وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في العام 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. في هذا التاريخ الذي تذكره منشورات الأمم المتحدة نفسها، يجد المواطن الغربي أنّه تم استعمال اسم فلسطين كأرض تم اختيارها من قبل الانتداب البريطاني لتقام عليها دولة يهودية من دون اعتبار لرغبة أو موافقة أصحاب هذه الأرض.
المواطن الغربي الذي يقطع الطريق على شحن الذخيرة من بلاده إلى إسرائيل وجد نفسه بمواجهة هذا الانحياز اللاأخلاقي من قبل بلاده إلى جانب قاتل الأطفال، وقف مدهوشاً أمام هذا التقاعس عن وقف حرب إبادة جماعية من قبل منظومة دولية كان يعتقد أنها دورها احترام القوانين الدولية وتطبيقها. مواطن اكتشف أن وسائل إعلامه تكذب عليه بكل لغات الأرض بما يخدم مشاريعها دون غيرها.
بالأمس أعاد العالم اكتشاف أغنيات مثل "Leve Palestina" أو " Rossa Palestina" وأعاد العالم اكتشاف الشعب الفلسطيني. نجحت إسرائيل بإعادة إحياء القضية الفلسطينية وحشدت لها الدعم الشعبي على صعيد العالم، ما يعيد طرح مسائل جوهرية على صعيد العدالة الدولية ودور الأمم المتحدة ومجلس الأمن ونطاق عمل هذه المؤسسات والمنظمات. نجحت إسرائيل في كل هذا من خلال ترسيخ صورتها كقاتل للأطفال والنساء وكبار السن والمدنيين العزل. هو نجاح ملطّخ بالدماء ويستحضر تاريخاً من المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحقّ فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، لا يمكن فصله عن لغة التهديد لكلّ من يمكن أن يتضامن مع غزة بتحويله إلى غزة ثانية. نجحت إسرائيل بتحويل غزة إلى نموذج عن إنجاز الاحتلال.داود ابراهيم / رئيس التحرير الصفا