ربيع غزة في خريف المانيا وعار التعالي والندم

 
كتب د. عبدالله يوسف الزعبي - خريف تتساقط أوراقه الصفراء غزيرة بلون التراب، وسماء سئمت لون الرماد الكئيب، والمطر بين زذاذ وهطل تجاوز السقيا بباع بعيد، هنا في كولون، مدينة الدستور وصناعة الخبر والعطر العتيق، يحضر التاريخ بهيبة ووقار وبعض خجل وقليل ندم وحفنة عتب على حاضر مستباح وراهن مباح. كولون مدينة النهر الفاصل بين روما الحضارة وقبائل البرابرة الجيرمانية على مدى خمسة قرون، وذاك الراين الذي يسير ببطء وتؤدة صوب مصبه في الأرض المنخفضة على هامش بحر في الشمال. هنا في كولون كاتدرائية مهيبة اتشحت بالسواد منذ أن أعلن نيتشه موت الله، وبرجان يمتشقان حلق الغيم منذ حملة الصليب الثانية التي ما انتهت حتى الآن، وأعمدة عدة ومعمار من رفيع الطراز يقف شاهداً على الحرب والدمار وخسة الموت الزعاق. كولون قطعة من صيرورة الزمان وجغرافيا المكان وشاهد على عظمة المانيا وقبائل الجيرمان التي أصبحت اليوم متعالية على السماء، منذ تكلّم زرادشت قبل مائة وأربعين عاماً وترك الإنسان يتسائل: لما أصبح من قتلة كل القتلة، يمسح يده الملطخة بالدماء، يبحث عن الماء المقدس ليطهر الذنوب، يخترع التفكير ومهرجان الألعاب، ويسعى حثيثاً ليجلس على كرسي الكون وعرش الإله.

المانيا أولى من غيرها إحساساً بالظلم وسطوة القهر منذ أن أقصتها روما ورمت بها إلى حاشية التحضر وقارعة الهامش، من عهد شارلمان وزمن أوتو الأول الكبير وعائلة هابسبورغ، وبعد حيث رايخ هزيل متشرذم بما يزيد عن 360 إمارة ضارع ضامر، إلى حركة الإصلاح والانقسام الديني وعصر مارتين لوثر، وبعدها حرب الثلاثين عاماً ومعاهدة وتسفاليا، وهكذا إلى بروسيا وحكم فريدريش الثاني ونهاية الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ثم نابليون وبسمارك وهتلر، وبين كل ذلك التنوير والعلمانية والشعور القومي والحق العريق. حينها كانت المانيا ولادة العظماء كأمثال عمانوئيل كانط أب الفلسفة المعاصرة ورائد السلام الأبدي وصاحب دعوة التفريق بين منظومة الأخلاق القيمية والدين، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل مؤسس المثالية والمنهج الجدلي حيث تسير الأفكار بتوليف النقائض وبها يصنع التاريخ، وقبلهما غرتفريد لايبنتس وبعدهما آرثر شوبنهاور وفريدريك نيتشه وفريدريك إنجلز وكارل ماركس وماكس فيبر ومارتن هايدغر ولودفيج فيورباخ وحنة آرنت، ومن العلماء يوهانس كيبلر وجورج أوم وجوستاف كيرشوف ويوهان غاوس وروبرت كوخ وإرفين شرودنغر وفيرنر هايزنبيرغ وألبرت أينشتاين وهاينريش هيرتز وألكسندر فون هومبولت وفيلهلم فون همبولت وغوتليب دايملر وهوغو يونكرز وماكس بلانك وروبرت أوبنهايمر، وغيرهم المئات.

سارت المانيا إذاً ومنذ عدة قرون في درب الفلسفة والعلم وتبنت منظومـة عَلمانية وعِلمانية كغيرها من دول الغرب، دارت في إطـار البنيـة الماديـة والمرجعيـة الكمونيـة الذاتيـة حيث عنصرا الكون المتمثلان في الإنسان والطبيعة كامنان فيه حالان بذاته، ما جعل الإنسان مرجعاً لذاته ومكتفياً بنفسه، حسب المفكر المصري عبدالوهاب المسيري. تشكل ذلك النموذج الكامن للكون ذات المبدأ البنيوي الثابت مع الزمان عبر حلقات متتالية بدأت بالواحدية الإنسانية حيث الإنسان مركز الكون وجوهراً مستقلاً عن الطبيعة ليفرض نفسه عليها محققاً بذلك إنسانيته المشتركة مع أخيه الإنسان. لكن غياب المرجعية المتعالية على الكون دفع الإنسان إلى التقوقع على ذاته فحولها من كينونة إنسانية إلى فردية أنانية تواجه الطبيعة والآخر معاً، فأصبح الإنسان بذلك إمبريالياً يوظف الطبيعة لمصلحته ويستبعد أخيه الإنسان ويخضعه، وبذلك سادت ثنائية الأنا والآخر الصلبة. اكتشف الإنسـان في الغرب تدريجياً أن الطبيعة مركزاً للكون أيضـاً بمرجعيـة ذاتية مكتفيـة بنفسها، ما شكل ازدواجيـة صلبة أخرى، سرعـان مـا انحـلت هي نفسها حين اصبـحت وحدهــا موضــع الحلــول إذ ذاب بها الإنسان وأصبح جزءً منها يذعن لها ويتبع قوانينها، وبهذا تشكلت الواحدية الصلبة التي سرعان ما تحولت هي الأخرى إلى واحدية سائلة عندما أصبح النسبي هو الثابت الوحيد والتغير هو نقطة الثبات الوحيدة، وحين فقدت الطبيعة مركزيتها في الكون وغاب كل يقين في سراب الشك وسقط كل شيء في قبضة الصيرورة التاريخية حيث عالم مفكك لا مركز له، تتساوى فيه الأطراف بالمركز، مسطحاً لا قمة فيه ولا قاعاً، يقف فيه الإنسان مع الطبيعة على وفي نفس المستوى، ثم يغيب ويتفكك ويذوب في عالم لا مركز له، وأخيراً ينقسم إلى إنسان أعلى وآخر أسفل، جزار وضحية، قوي وضعيف، يتصارعان في عالم دائم الحركة سائل ومائع لا معنى له ولا فيه.

خريف المانيا يعود كئيباً هذا الخريف مع ربيع غزة الصابرة حيث ذات الله المتعالية لا تعترف بهذر نيتشة ولغو زرادشت، وحيث كون فلسطين العزة صلب متماسك فيه الإنسان إنساناً رغم تسونامي الموت يقابله الحمد والشكر لله. خريف المانيا يأتي صعباً على من أحبها طوال العمر فجابها شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، مدناً وأريافاً مرات ومرات، منذ أن خطت سيغريد هونكه كتاب شمس الله تشرق على الغرب، وفيه أثر حضارة العرب على ذات الغرب الذي أعلن موت الله، فرد جميلها أن قبل يد الغاصب وسجد للمحتل، جاء مسرعاً بكل عَلمانيته وعِلمانيته، مع كل فلاسفته وعلمائه، وعالمه المسطح المائع، ليدفن وداعة غزة في عار ندمه وتعاليه، وذاك التكبر،وتلك العجرفة والعطش الأبدي للدم.