هزيمة سياسية "من المسافة صفر".. كيف خضع نتنياهو لشروط المقاومة؟

 


بعد فشل كيان الإحتلال عقب 47 يوماً على بدء أضخم حرب شنها طيلة تاريخه الإرهابي بتحقيق أي نصر عسكري على المقاومة الفلسطينية التي استبسلت بصورة أسطورية وألحقت بجيشه هزائم تاريخية فادحة، ها هو اليوم يتكبد هزيمة سياسية بعد العسكرية، ويرضخ في هدنته مرغماً لشروط المقاومة.

انصياع حكومة الحرب الصهيونية لشروط المقاومة في اتفاق الهدنة،
يؤكد فشلها بتحقيق آخر هدف من أهدافها التي حددتها وأعلنتها بلسان رئيسها نتنياهو حين بدأ حربه على قطاع غزة، الذي أعادته المقاومة اليوم بخفي حنين، دون تحقيق شيئ يمكن تسويغه كنصر معنوي أو شكلي يخرجه بماء وجهه أمام كيانه الساخط.

خطأ نتنياهو الفادح الذي سينهي حياته السياسية، أنه تعهد بتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في حربه الفاشلة على القطاع، لكنه لم يتمكن من تحقيق أي منها، فقد تعهد باعادة احتلال غزة، والقضاء على المقاومة، وتحرير الأسرى، إضافة إلى هدف غير معلن بتمرير مخطط تهجير سكان القطاع إلى سيناء.

المقاومة التي تعهد نتنياهو بالقضاء عليها أصبحت اليوم أصلب وأقوى من اليوم الذي اندلعت فيه الحرب عليها، فقد تمكنت من امتصاص هجمات جيش الإحتلال، والتأقلم الميداني معها، ونراها كل ساعة وأختها تكبده عشرات القتلى، وتدمر العشرات من دباباته ومدرعاته وآلياته، وتدك بصواريخها مدنه ومستوطناته، وتنصب كمائنها لجنوده المرعوبين الذين يتجولون وسط حقول من الألغام والرصاص والقذائف.

تعهد نتنياهو بالسيطرة على قطاع غزة وإعادة احتلاله، خاب هو الآخر، فقد تراجعت قوات الاحتلال البرية بشكل كبير مؤخراً، وتحولت أهدافها المعلنة من السيطرة على القطاع، إلى توغلات برية محدودة، لإثبات تواجدها العسكري البري فقط، في محاولة لحفظ هيبتها التي أهدرتها المقاومة في السابع من اكتوبر، وواصلت اهدارها "من المسافة صفر" لاحقاً.

تهجير سكان القطاع إلى سيناء المصرية، فشل بدوره فشلاً ذريعاً، رغم الحرب المسعورة براً وبحراً وجواً عليهم، ورغم ارتكاب المجازر اليومية لترهيبهم واجبارهم على الهروب والنزوح من مدنهم وبلداتهم، ورغم إسقاط عشرات الآلاف من أطنان المتفجرات على منازلهم ومساجدهم ومستشفياتهم ومدارسهم، إلا أنهم سطّروا ملاحم بطولية تاريخية في الصبر والتضحيات والفداء والصمود بشكل أسطوري، وأفشلوا مخطط تهجيرهم.

تحرير الأسرى من قبضة المقاومة أخفق أيضاً، بعد أن فشلت الاستخبارات الإسرائيلية بتحديد مكانهم، وعجز جيشها عن تحرير أسير واحد منهم، لنرى اليوم حكومة الحرب الدموية التي دقّت على صدرها في السابع من أكتوبر الماضي، متعهدة بالقضاء على المقاومة، ترضخ رغم أنفها لشروط المقاومة، في صفقة لتبادل الأسرى.

الإخفاق السياسي والاستخباري والعسكري بلغ ذروة طريفة، عندما حاولت حكومة الحرب الصهيونية في آخر رمق من مفاوضات الهدنة التي بذلت الدبلوماسية القطرية جهوداً جبارة لتحقيقها، شراء المزيد من الوقت، في محاولة أخيرة لتحرير الأسرى بعملية عسكرية غبية تخرجها من وحل غزة ببعض الكرامة، فاقتحم جيشها مستشفى الشفاء الذي روجت للعالم كله أن المقاومة بداخله، ظناً منها أنها قد تجد بعض الأسرى هناك، ليكشفوا لنا لاحقاً عبر مسرحية هزلية، عثورهم على شنطة بداخلها بندقية كلاشينكوف، ورأينا ضابط الإحتلال المربك يكاد يقسم للرأي العام العالمي والإسرائيلي أن (المقاومة مرًت من هنا)، لاقناعهم بصدق رواية حكومته، بطريقة مبتذلة مفبركة، تشبه أفلام الثمانينات البوليودية، لم تنطل حتى على زميله الكذاب افيخاي أدرعي!

الورطة التي وصل لها كيان الإحتلال بعد 47 يوماً من صمود غزة الأسطوري بكل قطاعاتها ومكوناتها، أنه لم يعد يعلم ما الذي يريد فعله أمام هذا الصنف البشري الذي لا يمكن وصف جَلَدِهِ وشجاعته وصموده؟!، فقد استنفذ بنك أهدافه هناك، واستنفذ مستودعات ذخائره وقنابله، واستنفذ وقته أيضاً بعد انقلاب الرأي العالمي ضده، دون تحقيق مكسب عسكري أو سياسي واحد يخرجه ببياض الوجه، سوّد الله وجهه..

الورطة الأكبر، أن جنود الإحتلال أصبحوا أهدافاً سهلة القنص لرجال المقاومة الذين يظهرون أمامهم من العدم، ويتنقلون تحتهم بأريحية في انفاقهم المحصنة، ويطلقون صواريخهم من داخل الخنادق، ورأينا مدرعات الإحتلال وهي تُعطب بولاعة ثمنها عشرة قروش، مثلما رأينا مقابر الدبابات الجماعية التي جندلتها قذائف الياسين، وسط تهاليل وضحكات رجال المقاومة الذين فاقت شجاعتهم كل كلمات الفصاحة والبلاغة.

يمكن تلخيص المشهد بعد قرابة خمسين يوما من طوفان الأقصى، أننا أمام كيان مهزوز مرتبك وواقع في ورطة، بعد أن مرّغت المقاومة الفلسطينية أنف كرامته، وعلّمت عليه، ولقنته درساً لن يمحى من ذاكرته المتبقية، وها هو اليوم، بدلاً من استرداد هيبته العسكرية التي فضّ طوفان الأقصى عذريتها في السابع من اكتوبر، يفقد هيبته السياسية التي فضّت المقاومة عذريتها أيضاً في هدنة 22 نوفمبر!