فورين آفيرز : لا خروج من غزة
لماذا لا تملك إسرائيل والولايات المتحدة سوى خيارات سيئة لليوم التالي؟
مجلة فورين آفيرز الأمريكية - بقلم جوست هلترمان -
أعتبر المحلل السياسي المخضرم جوست هيلترمان أن إسرائيل ومعها حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية لا تملكان سوى العديد من الخيارات السيئة في مرحلة ما بعد الحرب المتواصلة في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين أول المنصرم.
وذكر هيلترمان، الذي يشغل منصب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، في تحليل مطول نشرته مجلة فورين آفيرز الأمريكية أن هجوم طوفان الأقصى الذي نفذته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين أول؛ حطم إحساس إسرائيل بالأمن وأذل جهازها الاستخباراتي والأمني.
كما أدى إلى كشف عدم جدوى النهج المزدوج الذي تتبعه إسرائيل تجاه صراعها مع إسرائيل والمتمثل في العمل على إبقاء البيت الفلسطيني منقسما، وفي الوقت ذاته اقناع الأنظمة العربية بأن مصلحتها ستكون في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بدون اشتراط مسبق بعقد دولة الاحتلال سلام مع الفلسطينيين.
وردا على عملية طوفان الأقصى التي أسفرت عن مقتل 1200 إسرائيلي وأسر كتاب القسام الجناح العسكري لحماس أكثر من 250 أسير إسرائيلي في قطاع غزة، سعت إسرائيل إلى القضاء على القدرة العسكرية لحماس وسلطتها على قطاع غزة مرة واحدة وإلى الأبد بدلا من إبقاء حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة محصورة هناك.
وأسفر هذا المسعى عن سقوط أكثر من 14 ألفا و532 شهيدا فلسطينيا، بينهم أكثر من 6 آلاف طفل و4 آلاف امرأة، فضلا عن أكثر من 35 ألف مصاب، أكثر من 75 % منهم أطفال ونساء، وفقا للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
ولفت المحلل أن إسرائيل في سعيها المنفرد لتدمير حماس، يبدو أنها قد تجاهلت أو تنازلت عن التخطيط لعواقب أو لما ينبغي أن يحدث بعد انتهاء الحرب لحلفائها الغربيين، حتى برغم أن عملياتها العسكرية سوف تحدد حدود ما هو ممكن.
مقترحات غير ناجعة
وأشار إلى أن العديد الزعماء في الغرب طرحوا عدداً من السيناريوهات الغامضة، ولا يبدو أن أياً منها يحمل أملاً كبيراً في التحقق.
واستعرض هيلترمان عددا من السيناريوهات المطروحة ومن بينها أن تقوم الدول العربية بإرسال قوة لحفظ السلام لحكم قطاع غزة، وأوضح أن الحكومات العربية أظهرت عدم رغبتها في تولي مثل هذه المسؤولية.
وأضاف أن تلك الحكومات منقسمة حسب مصالحها وأهدافها الإقليمية المنفصلة، وجميعهم يكرهون تحمل عبء الحكم على شعب جامح معروف بقوته بسبب سنوات من المقاومة المسلحة لإسرائيل؛ وهم أيضاً غير راغبين في رفع عبء حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن أكتاف إسرائيل.
ولفت إلى مقترح أخر حظي باهتمام كبير من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، وهو أن تحل السلطة الفلسطينية محل حماس في غزة.
وعقب أنه من الصعب تخيل وجود نجاعة لهذا المقترح لعدة أسباب، أبرزها هو فقدان السلطة الفلسطينية، التي تحكم الضفة الغربية (تحتلها إسرائيل) كامل مصداقيتها لدى الفلسطينيين، ويعتبرونها غير فعالة وسلطوية وفاسدة وذراع للاحتلال الإسرائيل.
وإضافة لذلك، أكدت السلطة الفلسطينية ذاتها عدم اهتمامها بإدارة غزة، فهي بالكاد قادرة على حكم الضفة الغربية، فكيف يمكنها أن تتوقع أداء أفضل في غزة، حيث من المرجح أن يظهر السكان عداء أكبر تجاهها، وخاصة إذا تولت السلطة بناء على طلب إسرائيل.
ويعدل البعض على الاقتراح من خلال الإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية لن تلعب سوى دور اسمي، وأن الطبقة المهنية في غزة، التي تعيش حالياً في وضع البقاء، يمكنها إدارة المؤسسات الحكومية لتوفير الخدمات للسكان.
وعقب المحلل أنه من الصعب أن نرى كيف يمكنهم القيام بذلك دون الحصول على ضوء أخضر من بقايا حماس.
وحتى لو نجحت إسرائيل في تدمير كتائب القسام الجناح العسكري لحماس في غزة ـ وهو ما يبدو احتمالاً غير مرجح ـ فإن الحركة أكثر من مجرد منظمة عسكرية.
وذلك لأن حماس تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2006، ولها حضور في المؤسسات الكبرى والمجتمع المدني، وتتمتع بدعم شعبي كبير.
ويشير البعض إلى محمد دحلان، قائد فتح المارق المقيم في أبو ظبي والذي ينحدر من غزة وسيتمتع بدعم من إسرائيل والإمارات، وكذلك الولايات المتحدة.
ولكن أي محاولة لفرض قيادته للقطاع من المرجح أن تولد ميتة، نظراً لافتقاره إلى الدعم المحلي، وقد أشار إلى أنه غير مهتم بالحصول على تلك القيادة.
وفي ظل عدم قبول دول عربية أو ممثل فلسطيني لملء فراغ حماس فى غزة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً أنه يؤيد السيطرة الأمنية الإسرائيلية لفترة غير محددة، إما من خلال إعادة الاحتلال المباشر أو الانتشار داخل المنطقة العازلة وعلى طول محيطها.
ومع ذلك، يرى المحلل أنه في ظل الظروف الحالية، فمن المرجح أن بعض أعضاء حكومة نتنياهو اليمينيين المتطرفين لن يوافقوا على إعادة احتلال غزة إلا إذا تمكنت أولاً من إخلاء المنطقة من سكانها - وهو السيناريو الذي ألمح إليه البعض منهم كحل لمشكلة التحدي الأمني لإسرائيل في غزة.
وعقب الكاتب أن رسائل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة بأن التحرك لدفع الفلسطينيين إلى النزوح باتجاه مصر، أو حتى إعادة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، سيكون غير مقبول ربما تكون قد دفعت القادة الإسرائيليين إلى التوقف عند الحديث عن هذا الأمر، ولو حتى في خطابهم العام.
وحتى لو وافقت واشنطن على دفع إسرائيل لمئات الآلاف من سكان غزة بالاتجاه جنوبا فإن مصر ستعمل على مواجهة تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيها، إذ تخشى أن يشن الفلسطينيون تمردا جديدا ضد إسرائيل من أراضيها، وهو ما ستوجب ردا مسلحا إسرائيليا على الأراضي المصرية.
لكن حتى الآن ليس من الواضح ما إذا كانت مصر قادرة على منع حدوث تهجير جماعي لسكان عزة لأراضيها (النكبة الفلسطينية الثانية) الا أنه من المؤكد أن تلك الخطوة ستؤدي إلى تصعيد العنف على جبهات أخرى، كما ستؤدي إلى وجود مخاوف بملاقاة فلسطين أخرين لنفس مصير سكان غزة.
وسوف تؤدي تلك المعطيات إلى اضطرابات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث تصاعد العنف خلال الشهر الماضي ويعيش الفلسطينيون مع نفس الخوف البدائي (للنكبة الأولي تأسيس إسرائيل 1948)؛ ويمكن أن تؤدي إلى تصعيد التوترات بين إسرائيل وحزب الله في لبنان؛ ومع الجماعات الأخرى المدعومة من إيران في العراق وسوريا واليمن؛ وربما مع إيران نفسها.
وقد استهدفت هذه الجماعات إسرائيل والولايات المتحدة بشكل متكرر المنشآت الأمريكية في المنطقة بالصواريخ والطائرات بدون طيار خلال الأسابيع الستة الماضية، وحتى لو لم تلك الجماعات، ولا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، حريصين على الانخراط في حرب شاملة، فقد يتعثرون في حرب شاملة بسبب سوء التقدير أو الخطأ.
ويتزايد هذا التهديد مع مرور كل يوم، حيث تقوم إسرائيل وحزب الله بإرسال صواريخ إلى عمق أراضي الطرف الآخر. وفي ضوء هذه الترتيبات المقترحة غير المحتملة، فإن "اليوم التالي" بالنسبة لغزة يبدو قاتماً على نحو متزايد.
ورأي الكاتب أن السيناريو الأكثر ترجيحا حدوثه وهو ليس جيدا على الإطلاق، هو أن توفر الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية الأخرى المرافق الأساسية مثل الوقود والغذاء والمياه والأدوية، ويظل معظم سكان غزة مشردين، وتحتفظ إسرائيل بوجود أمني معين داخل غزة، ربما لفترة طويلة، مع توفير المياه والكهرباء عبر الأنابيب.
ويرجح بعد المراقبون سيناريو حدوث السيناريو الأسوأ، وهو إخراج الفلسطينيين من غزة وشروع إسرائيل في إعادة احتلال القطاع، ويرى المراقبون أن إسرائيل قد تقرر أنها ليس لديها خيار آخر أو أنها لن تجد مرة أخرى فرصة ذهبية ليس فقط لهزيمة حماس وطرد الفلسطينيين من غزة، ولكن أيضًا لمحاولة فعل الشيء نفسه في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وقد تختار إسرائيل في نهاية المطاف أيضاً مهاجمة حزب الله في لبنان، بل وربما تذهب إلى حد جر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران. وقد شارك نتنياهو دون جدوى في هجوم أمريكي على إيران منذ فترة طويلة قبل هذا العام.
مخرج وحيد
وبحسب الكاتب فإن من الممكن أن نتصور طريقاً آخر للمضي قدماً، حتى ولو كانت فرص نجاحه ضئيلة بالفعل، معتبرا أن هذا المسار لن يؤدي إلى حل لليوم التالي لما بعد الحرب في طغزة، لكنه قد يوصل الطرفين إلى نتيجة أفضل في يومنا هذا.
وأوضح المحلل أن هذه الحل يتمثل في البدء الفوري بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وهذا يجرى التفاوض بشأنه حاليا، حيث تفرج حماس عن الأسرى الإسرائيليين في غزة مقابل وقف جدي من قبل قوات الاحتلال لعملياتها العسكرية - لأيام وليس لساعات – من أجل زيادة المساعدات لغزة (وربما أيضاً للإفراج عن السجناء). الفلسطينيون المعتقلون في السجون الإسرائيلية).
ومن هنا، وفقا للمحلل يمكن للمفاوضات الجارية بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية أن تتجه تدريجياً نحو وقف إطلاق النار في غزة.
وأضاف أن إسرائيل تعلن رسمياً رفضها وقف إطلاق النار، ومن غير المرجح أن توافق على وقف إطلاق النار قبل إطلاق سراح عدد كبير من الرهائن، وهو ما قد يبدو وكأنه انتصار عسكري على حماس. ولكن حسابات إسرائيل قد تتغير إذا عُرض عليها في الوقت نفسه أفق سياسي للخروج من معضلة غزة.
وذكر أن إن مثل هذا الأفق السياسي موجود، ولكنه لن يتحقق ما لم يفسح إطلاق سراح الأسرى والهدنة الإنسانية المجال لمزيد من الدبلوماسية، ولن يأتي هذا بالمجان.
ورأي هيلترمان أنه من خلال جعل هزيمة حماس المطلقة على رأس أولوياتها، فقدت إسرائيل رؤية الشيء الذي تحتاج إليه وتقدره أكثر من غيره "استعادة إحساسها بالأمن"، موضحا أن استخدامها السابق للقوة الساحقة ضد الفلسطينيين جلب وهم السلام والأمن، ولكن الواقع الأساسي كان مختلفا بشكل واضح.
ولفت إلى أن الطريقة الأفضل لتحقيق قدر أكبر من الأمن على أساس دائم قد تكون هي أن تتصالح إسرائيل مع المنطقة الأوسع من خلال اتفاقيات التطبيع أو من خلال آلية أخرى مع وضع حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في المقدمة.
ويتطلب مثل هذا النهج تقديم تنازلات كبيرة من جانب إسرائيل بشأن مستوطنات الضفة الغربية والدولة الفلسطينية، وهو ما من غير المرجح أن توافق عليه حكومة نتنياهو، أو أي حكومة أخرى مماثلة لها في فكرها المتطرف.
وإذا كانت إدارة بايدن تريد التراجع عن بعض الأضرار الهائلة التي لحقت بمصداقية الولايات المتحدة، بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل – والتي تظهر بشكل صارخ معاييرها المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان الدولية والقانون الإنساني الدولي – فإنه سوف تحتاج إلى القيام بمبادرة سياسية كبرى لمتابعة حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ووفق المحلل فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تحويل أو على الأقل التخفيف من مشاعر الجمهور العالمي الغاضب، ناهيك عن مجموعة واسعة من قاعدة بايدن السياسية وكذلك الدول العربية.
وبطبيعة الحال، قد لا يكون بايدن حريصا على اتباع هذا المسار، ولكن الفشل في القيام بذلك قد يطارده في صناديق الاقتراع العام المقبل، وخاصة بين الدوائر الانتخابية المهمة، مثل الأمريكيين العرب والمسلمين في ميشيغان وغيرها من الولايات المتأرجحة، وبين الناخبين الشباب.
وفي الوقت الحالي، تستطيع الولايات المتحدة أن تمارس الضغط على إسرائيل لكي تلتزم على الأقل بقواعد الحرب، والموافقة على وقف المساعدات الإنسانية، والسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة كأساس للخروج من الأزمة الحالية.
ومن الواضح أن أي حل سيتطلب وجود ضغوط أمريكية بمستويات أقوى من الحالية على إسرائيل.