نعم.. الأردنيون هم كابوس الاحتلال!
في كلمته المصوّرة التي تمّ بثها قبل ساعات قليلة من دخول اتفاق الهدنة بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية حيز التنفيذ، وصف "أبو عبيدة"، الفارس القسّامي المُلثّم ذو الشماغ الأحمر، "الأهل" في الأردن بأنّهم "كابوس الاحتلال الذي يخشى تحرّكه، ويتمنّى ويعمل ويجاهد لتحييده وعزله عن قضيته".
بداية لا بدّ من التأكيد على نقطتين جوهريتين:
النقطة الأولى أنّ "أبو عبيدة" قد اختصّ الأردنيين بالاسم في معرض حديثه الموجّه إلى عموم أحرار الأمّة والعالم، بكون الأردن هو في القلب من القضية الفلسطينية، ولا يمكن لأحد أن يسلخهما عن بعضهما البعض.
ولا يمكن لأيّ طرف في العالم أن يتحدث عن "تسوية" عادلة للقضية الفلسطينية دون أن تمر من بوابة الأردن ويرضى عنها، ولا يستطيع أحد في العالم أن يفرض "تصفية" قسرية للقضية الفلسطينية دون أن يتجاوز عقبة الأردن الذي سيقف قطعا في وجهها.
والنقطة الثانية أنّ "أبو عبيدة" قد قال أنّ الشعب الأردني كابوس للاحتلال، ولم يقل أنّه كابوس للدولة الأردنية أو النظام الأردني، وهذا لسدّ الطريق أمام الخبثاء أو المأجورين أو المتصيّدين في الماء العكر أو مفتعلي الفتن من "الذباب الإلكتروني".. والذين يريدون حرف الكلام، وإخراجه عن سياقه، وتقويله ما لم يقل، وتحميله ما لا يحتمل!
ثمّ إنّه لا يوجد هناك شعب في العالم هو كابوس لدولته وسلطات بلاده إلا بمقدار ما أنّ سلطات هذه الدولة هي التي تصرّ على النظر إلى هذا الشعب باعتباره كابوسا.. وهو ما لا يستقيم في الحالة الأردنية جملة وتفصيلا.
بل إنّ الأردن من أصعب بلدان العالم التي يمكن أن تستعدي فيها الشعب على السلطات أو السلطات على الشعب مهما احتدم بينهما الخلاف واشتدّت المعارضة، أولا لأنّ علاقة الحكم والناس في الأردن تخلو من "إرث الدم" كما في دول أخرى، وثانيا لأنّه ما من بيت في الأردن يخلو من عسكري أو معلم أو موظف حكومي، وما كيان أيّ دولة في العالم غير عساكرها ومعلميها وموظفيها؟!
أمّا لماذا اعتبر "أبو عبيدة" الأردنيين حصريا كابوس الاحتلال دونا عن بقية العرب والعالم.. فالإجابة ببساطة لأنّهم فعلا كذلك!
قد يتسّرع أحدهم في الإجابة ويعزو ذلك إلى الجغرافيا، أي قرب الأردن من فلسطين حدّ الالتصاق، وامتلاكه أطول حدود/ خط مواجهة مع الأراضي المحتلة.
أو يعزوه إلى الديموغرافيا باعتبار أنّ أكثر من نصف المواطنين الأردنيين هم من أصول فلسطينية.
والجغرافيا والديموغرافيا عاملان مهمان هنا، ولكن العامل الحاسم والرئيسي الذي يجعل من الأردنيين كابوسا للاحتلال هو "الشخصية الأردنية"، وتحديدا شخصية أبناء العشائر والحمائل الشرق أردنية!
قد تبدو الشخصية الأردنية للوهلة الأولى بسيطة وانفعالية ومتمركزة حول الذات يسهل مع قليل من التخطيط والدهاء و"الدهلزة" احتواؤها وتطويعها وسلخها عن محيطها.. ولكن هذا مجرد فهم سطحي لا يلمس مدى عمق وتركيبية هذه الشخصية.
على المستوى الظاهري السطحي يسري على الفرد الأردني سائر الصفات البشرية الإيجابية والسلبية التي تسري على أيّ إنسان طبيعي ينتمي لأيّ مجتمع بشري آخر.
ولكن على المستوى الوجداني الأعمق الذي يشكّل ما نسميه "الشخصية الجمعيّة" لمجتمع ما أو ثقافة ما، فإنّ هناك أربع سمات أساسية تشكّل شخصية الأردني ومرجعيته السلوكية النهائية: بتخجّل، صاحب نخوة، أصله بردّه، كريم.
قد تتوارى هذه السمات تحت كومة من الصفات الفردية المتباينة وسط سياق نمط الحياة ومتطلبات العيش اليومية، ولكن في المواقف المفصلية، وعند "الحزّة واللزّة"، فإنّ خجل الأردني ونخوته وأصله وكرمه هي ما تطغى على أي صفات شخصية أو اعتبارات ذاتية.
وأكثر ما يمكن أن يستفز الأردني ويحوّله من إنسان سهل مطواع إلى وحش كاسر كلّ ما يمسّ الأرض والعرض (وأي شيء يمسّ الأرض والعرض أكثر مما يحدث في فلسطين)، أو أن يشعر للحظة أنّ أحدهم يستخفّ بسجاياه، أو يحاول استغلالها وتجييرها لصالحه، أو في سبيل غايات وأغراض مشبوهة.
والمشكلة أنّك لا تستطيع أن تتنّبأ متى تلامس وترا حساسا لدى الأردني ولماذا، لذا أنت بحاجة لأن تكون دائما حذرا ومراعيا في تعاملك معه، وتحفظ دوما "خط الرجعة" ولا تسمح لنفسك بالتمادي أو الغرور!
واللحظة التي تظنّ فيها أنّك قد استطعت تطويع الأردني، و"بَلْفِهِ"، ووضعه "تحت باطك"، وأنّه قد أصبح "تحصيل حاصل"، و"من العُبّ للجيبة".. هي اللحظة التي يفاجئك فيها الأردني، ويعرّفك خطأك بالطريقة الصعبة، ويقتصّ منك بالصاع الوافي!
العدو الصهيوني قد خبر الأردنيين جيدا، واكتوى بنار شكيمتهم حين يطلقون العنان لمعدنهم الأصيل.
سواء في معارك سنة 1948 التي لم ينقذ الصهاينة فيها من براثن الجيش العربي سوى تواطؤ القيادة الإنجليزية.
أو في معركة الكرامة التي عرّت المقاتل الصهيوني، وفضحت أمام الجميع حجمه الحقيقي، وبددت أسطورة الجيش الذي لايقهر.
أو حتى في نكسة الـ 67، والتي لا يتحمّل وزرها الجنود على الأرض بمقدار ما أنّهم دفعوا ثمن حالة التشرذم والإنقسام التي كانت تعاني منها مجمل المنظومة العربية.
وما تودُّد الصهاينة وحلفائهم المنافق إلى الأردن إلا من قبيل "مكافاة الشر"، ومحاولة تحييد تلك الإمكانية المؤرّقة التي ينضوي عليها الشعب الأردني.
نعم، الأردنيون بخجلهم ونخوتهم وأصلهم وكرمهم هم كابوس الاحتلال، وأيّ شخص أو جهة تتوهّم عكس ذلك، أو تريد للأردنيين أن يكونوا بخلاف ذلك.. فإنّها تحكم على نفسها أن يكون الأردنيون كابوسها هي الأخرى!