يحيى عياش.. مهندس المقاومة وكابوس الاحتلال

في الثالث عشر من مايو/أيار عام 2021[1]، وفي خضم معركة سيف القدس بين غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، أطلقت كتائب القسام صاروخا موجها لم يعرفه الاحتلال من قبل، قصفت به بلدة "إيلوت" المتاخمة لمطار رامون الإسرائيلي بجنوب الأراضي المحتلة. وصدر بعدها بيان "أبو عبيدة"[2] المتحدث الرسمي باسم "القسَّام" وقد حَمَل معلومتين مُتصِلتين: الثانية هي أن القصف تمَّ بالصاروخ الذي يمتلك القوة التدميرية القصوى بين صواريخ المقاومة، وأنه أُطلِق ثأرا لاغتيال قادة القسام ومهندسيه من قِبَل الاحتلال. أما المعلومة الأولى فهي أن الصاروخ يحمل اسم "عيَّاش 250″، نسبة إلى المهندس الشهيد "يحيى عياش" الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية عام 1996.

بمدى يصل إلى 250 كم، أعلن "عياش 250" خضوع الأراضي المحتلة كلها لنطاق صواريخ المقاومة، في رمزية تربط السلاح الجديد بالرجل الذي جعل للمقاومة الفلسطينية سلاحا وبأسا شديدا على عدوها، إنه أبو البراء، "يحيى عبد اللطيف ساطي محمود عياش"، خريج الهندسة الكهربائية بجامعة بيرزيت، ومهندس التفجيرات الأهم بكتائب القسام خلال النصف الأول من التسعينيات، والمطلوب رقم واحد عند دولة الاحتلال حتى نال الشهادة، والرجل الذي نقل المقاومة الفلسطينية نقلة نوعية كبيرة عبر إستراتيجيات السيارات المُفخَّخة والتفجيرات الاستشهادية التي لم يختبرها الاحتلال من قبل، ليُقدِّم لنا حياة -على قصرها- ثرية بفصول تستحق أن تُروى. ومع الحرب الدائرة حاليا بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال على تخوم قطاع غزة المحاصر، وبروز العبوات المفخخة، والتطور النوعي لأسلحة المقاومة، فإن اسم عياش يحضر جليّا بوصفه أحد المهندسين والقادة الذي أسسوا للعمل النضالي المسلح في مواجهة الاحتلال.


من الريف إلى المدينة
في يوم الأحد الموافق 6 مارس/آذار 1966، وفي قرية رافات التابعة لنابلس، كان الشيخ "عبد اللطيف ساطي" يستقبل مولوده البكر الذي أسماه "يحيى" تيمنا باسم نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام. وقد نشأ الصغير في بيت ريفي بسيط لأبوين مُتديِّنين، غَرَسا فيه مقومات التديُّن التي جعلت شخصيته هادئة متزنة منذ الصِّغَر[3].

ومنذ اللحظات الأولى لدراسته الابتدائية ظهرت على "يحيى" أمارات الذكاء والنبوغ العلمي، حتى إنه كان يفوق قدرات صفِّه الدراسي بعام أو عامين على حد وصف والده[4]. وقد حصل يحيى على شهادته الثانوية من مدرسة "بديا" بمعدل عام 92.8%، وبمعدل 95% في الفيزياء والرياضيات[5]، ومن ثمَّ انفتحت أبواب كلية الهندسة أمام هذا العقل الفذ.

في سلوك متسق مع شخصيته البارَّة المتواضعة، رفض "يحيى" الالتحاق بالجامعة الأردنية أو جامعة اليرموك -رغم تأهله للالتحاق بهما- حتى لا يبتعد عن والديه، ولكي يوفِّر أقصى قدر ممكن من نفقات دراسته، ولذا التحق بكلية الهندسة (قسم كهرباء) بجامعة بيريزت[6]، في اختيار كان له أبلغ الأثر في مستقبل المهندس الناشئ. في حفل الاستقبال السنوي عام 1984، التقى عياش بطلاب "الكتلة الإسلامية" بالجامعة، التي كانت الجناح الطلابي لحركة حماس (قبل تأسيس الحركة بصورة رسمية عام 1987)، وعرَّف نفسه إليهم فأظهروا اهتماما به.


سرعان ما انخرط عياش مع طلبة الكتلة الإسلامية وشارك بصحبتهم في مختلف الأحداث السياسية والاحتجاجات الطلابية ضد الاحتلال، فاكتسب مكانة ملحوظة في محيطه الجديد، وأصبح في عامه الدراسي الثاني عضوا بإحدى أسر الإخوان المسلمين برام الله، مُوظِّفا سيارة والده لخدمة الحركة الإسلامية في دأب شديد، حتى اعتبرته الفصائل الفلسطينية شيخ الإخوان في قريته رافات[7]. وقد شكَّل التعسُّف العنصري من قوات الاحتلال وممارساته تجاه الفلسطينيين الدافع الأكبر لدى يحيى للخروج من دائرة الاحتجاج الأوّلي والمظاهرات إلى دائرة أخرى يكون فعل المقاومة فيها أبلغ وأشد على الاحتلال، خاصة وتاريخه الأسري ينحدر من عائلة ذات ماضٍ نضالي منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين[8].

من الحجارة إلى القنبلة
يذكر الكاتب المهندس "غسان دوعر" في كتابه عن "عياش"[9] أنه رغم الانخراط الكبير لحركة "حماس" وأتباعها في الانتفاضة الأولى، فإن السنوات الأربع الأولى من هذه الانتفاضة تُعَدُّ أشد السنوات غموضا في حياة "عياش"، إذ كان يقاوم خلالها بعمليات فردية لا يعلم عنها أحد شيئا. ولم يتخرج "عياش" إلا بعد الانتفاضة، وتحديدا عام 1992، وهو العام نفسه الذي انضم فيه إلى كتائب عز الدين القسام -الذراع العسكري لحركة حماس- وترجم اقتراحاته على رفاقه بالكتلة الإسلامية إلى واقع حي؛ إذ كان "عياش" الطالب دائم الإشارة لاستخدام القوة في النضال لأجل القضية الفلسطينية[10]، وهو ما أخذ "عياش" المهندس العهد لتحقيقه.

 
في عام 1987، قامت الانتفاضة الأولى -أو انتفاضة الحجارة- على خلفية دهس مستوطن لمجموعة من العمال الفلسطينيين[11]. وقد أصبحت الانتفاضة بوابة "عياش" إلى العمل العسكري مع كتائب القسام، ووفقا للمهندس "عبد الحكيم حنيني"[12]، أحد مؤسسي القسام، فإن شغف "يحيى" بالعلم واطلاعه المستمر على محتويات المكتبة الجامعية قاده إلى بحث حول صناعة البارود، حيث أُعجِب بالأمر وتحمَّس له، ووجد في تحضير البارود من عناصره الأولية منفذا للتغلب على شح الإمكانات العسكرية للمقاومة، ثم عرض الفكرة على قادة "القسّام"، ومنهم "زاهر جبارين"[13] عضو المكتب السياسي لحماس حاليا، فنالت استحسانا وتشجيعا.

من مواد أولية مثل الكبريت والسماد والفحم، بدأ المهندس الاستثنائي تكوين خلطته المتفجرة، جنبا إلى جنب مع تطوير الدوائر الكهربائية اللازمة لصنع المتفجرات، مستغلا مخزونه العلمي والعقلي الفريد -بشهادة أقرانه- لتوفير السلاح التفجيري الأول للمقاومة الفلسطينية. وبعد فشل التجربة الأولى أتت التجربة الثانية بنتيجة أبهرت كل مَن شاهدها؛ حتى إنهم أخذوا في التكبير والعناق وكأنهم امتلكوا الدنيا بأسرها كما يروي "جبارين".
 
بعدئذ، عَكَف فريق التصنيع القسَّامي على صنع المتفجرات التي ابتكرها "عياش". وفي أثناء سنوات الانتفاضة، تحوَّلت المقاومة بالحجارة إلى مقاومة من نوع آخر تضمَّن السيارات المفخخة بجانب تجمُّعات الإسرائيليين، والعمليات الانغماسية الاستشهادية التي كان لها أبلغ الأثر في زعزعة معنويات الاحتلال. ففي حديثه عن "عياش" قال القيادي القسامي البارز "صالح العاروري"[14] إن العدو عندما يرى أصحاب الحق الذين يقاتلهم ذاهبين إلى الموت باختيارهم فإنه لن يجد مفرا من الهزيمة النفسية.


وقد توالت العمليات القسامية تحت إشراف المهندس الذي بات المطلوب الأول للمخابرات الإسرائيلية، حتى أتت مذبحة الحرم الإبراهيمي يوم 15 رمضان 1414هــ/ 25 فبراير/شباط 1994م، عندما اقتحم الطبيب الصهيوني "باروخ جولدشتاين" المسجد الإبراهيمي تحت أعين جنود الاحتلال، الذين أغلقوا بوابات المسجد ليمنعوا المصلين من الهرب، قبل أن يفتح "جولدشتاين" النار على المُصلين ويقتل 29 مصليا ويجرح 15 آخرين.

انقضَّ المصلون على الطبيب القاتل وقتلوه، لكن هذا لم يمنع الأمن الصهيوني من مفاقمة أرقام الشهداء والجرحى بأعمال عنف وإرهاب بالغة، ما جعل "يحيى" عازما على الثأر لأهله من هذه المقتلة، ولذا أتى الرد سريعا يوم 6 أبريل/نيسان من العام نفسه، حين تقدَّم المقاوم "رائد زكارنة" بسيارته المفخخة نحو محطة الحافلات المركزية بمدينة العفولة كما خطط "عياش". وفي لحظة شروع الركاب في الدخول إلى الحافلة، تجاوز "رائد" الحافلة وأوقف سيارته المفخخة عند مقدمتها، وما هي إلا ثوانٍ حتى كانت أصوات الانفجارات تملأ الشارع وتقتل في طريقها ثمانية مستوطنين[14].

بعد أسبوع واحد، في يوم 13 من الشهر نفسه، نُفِّذَت عملية الخضيرة[15] بتنفيذ الفدائي "عمار عمارنة" التي قتلت 7 إسرائيليين وأصابت العشرات، ثم عملية تل أبيب[16] في يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1994 بتنفيذ "صالح نزال"، الذي قتل 22 إسرائيليا وأصاب أكثر من 45 آخرين، فضلا عن الخسائر المادية البالغة مليونين و300 ألف دولار، والصخب الجماهيري الذي طالب باستقالة رئيس وزراء دولة الاحتلال "إسحاق رابين"[17].


مرَّت كل تلك العمليات برعاية "يحيى عياش" وفريقه الرباعي المكون من "زاهر جبارين" و"علي عاصي" و"عدنان مرعي"، الذين كانوا يُموِّلون العمليات من جيبهم الخاص؛ حتى إن "عياش" اضطر لبيع ذهب زوجته "أم البراء" لأجل تمويل الكفاح المسلح[18]. لكن هذه العمليات ومثيلاتها جعلت "عياش" على رأس هرم أولويات المخابرات الإسرائيلية وحكومتها من أجل تصفيته.

 

مع سطوع نجم "عياش" في التسعينيات، لم تترك أجهزة الأمن الإسرائيلية -بمتابعة مباشرة من رئيس الوزراء رابين- فرصة لملاحقة المهندس "الزئبقي" الذي لم يكن يعلم أحد مكانه وتحرُّكاته بسهولة. ومع اشتداد المطاردة والملاحقة لكل مَن له علاقة به، وخاصة أهله الذين خُرِّب منزلهم أثناء التفتيش عنه، قرر المهندس الخروج من الضفة إلى غزة؛ حيث مركز النفوذ الحمساوي.

وفي رحلة انتقاله إلى غزة، يذكر "دوعر" أن المطلوب رقم واحد في الأراضي المحتلة خرج من الضفة بصورة لم تجد لها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تفسيرًا، وذلك في الوقت الذي كان الآلاف من الجنود وحرس الحدود والشرطة مستنفرين لإلقاء القبض عليه. ووفقًا لما رواه ابنه "البراء"[19]، فإن "عياش" انتقل من الضفة إلى غزة في صندوق مُخبأ بشاحنة غذائية، ليتسرَّب أمام أعين الاحتلال دون أن يروه.


ومن حي إلى حي، ومن بيت إلى بيت كانت رحلة المهندس في التخفي شاقةً ومرهقة، ورغم ذلك فقد استمر العمليات ضد الاحتلال دون توقف. ومع كثرة الضغط الأمني على أهله في الضفة، أرسل "عياش" في طلب زوجته "هيام عياش" وولده البراء ليكونا إلى جواره بغزة، ففطنت المخابرات الإسرائيلية إلى احتمالية وجود عياش في غزة، وبدأت محاولة اغتياله عن بُعد.

ومن بيت البيوت التي كان عياش يختبئ بها، كان بيت صديقه "أسامة حمَّاد" ببيت لاهيا في شمال القطاع، وحينها تعرَّف عليه "كمال" خال صديقه، رجل الأعمال الذي كان على علاقة وثيقة -حسب روايته[20]- بمسؤول المخابرات الفلسطينية اللواء "موسى عرفات"، وهو ما قاده لاحقا للتعرف إلى بعض الشخصيات الكبيرة بالمخابرات الإسرائيلية (الشاباك) الذين طلبوا منه إعطاء هاتف خلوي معبأ بالمتفجرات إلى يحيى بأي طريقة.
 

وفي اليوم الموعود، هرع يحيى إلى منزل صديقه أسامة ليتصل بوالده ويبشره بمولوده الجديد "عبد اللطيف"، الذي تغيَّر اسمه لاحقا إلى يحيى بعد مقتل أبيه، وقد شوَّش الشاباك على الخط وأجبره على استخدام الهاتف الذي حمله إليه كمال[21]. وفي مكالمته الهاتفية مع والده صباح الجمعة الموافق 5 يناير/كانون الثاني 1996، كانت مروحية إسرائيلية تحلق بالقرب من مصدر الصوت حتى تتحكم في تفجير الهاتف بمجرد التعرف على صوت يحيى، وما هي إلا لحظات حتى صدر من الجوَّال صوت سمعه سكان الشارع بأسره وهرعوا على إثره إلى المنزل مُسرعين.

لقد كان انفجارا مدويا هزَّ أركان الحي، بل وهزَّ أركان فلسطين بأكملها. لقد انتهت العملية المُعقَّدة التي دأب عليها إسحاق رابين بنفسه بعد 4 سنوات[22]، بمكالمة أخيرة بين الوالد والولد. تفجَّرت الشريحة والهاتف وانتهت قصة المهندس الذي حرم قادة الأمن الإسرائيلي الراحة طيلة سنوات، لكن هذا المهندس يبدو أنه ترك وراءه إرثا عصيّا على الاندثار والنسيان.


لقد ترك موت عياش أبلغ الأثر في نفوس الفلسطينيين والمقاومة، فشيَّع جنازته عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وعمَّ الإضراب مدينتَيْ القدس ورام الله، وأُلصقت صور المهندس الشهيد على الجدران في الشوارع، فضلا عن المسيرات والتظاهرات التي اشتبكت مع قوات الأمن الإسرائيلي في تعبير صادق وهائل عن حجم الغضب الشعبي لاغتيال رجل اعتبره الكثيرون "أسطورة" حية. أما آثار عياش فهي في أيدي المقاومة اليوم يُطوِّرونها يوما بعد يوم ويدكُّون بها حصون العدو بأطنان من المتفجرات التي كانت قبل "ثورة المهندس" مجرد حجارة في أيدي الغاضبين.
 
المصدر : الجزيرة