قصة قصيرة: سارا!

 
عندما أخبروا "سارا" أنّه سيتم الإفراج عنها غدا ضمن صفقة تبادل الأسرى انهارت في البكاء.

الجميع ظنّوا أنّها دموع الفرحة، ولكن في قرارة نفسها كانت دموعها دموع حزن، حزن حقيقي وعميق وجارح: هي لا تريد العودة!

لأول مرّة في حياتها تعرف معنى الأمان والاطمئنان، مع أنّ القصف أحيانا كان يهزّ أركان القبو الذي يمكثون فيه فتشعر أنّه سينخلع من مكانه.

لأول مرّة في حياتها تعرف معنى الرجولة بفضل حرّاسها الملثّمين؛ ليسوا سجّانين، منذ اليوم الأول لم تشعر أنّها بين يديّ سجّانين بل حرّاس، أرادت أن تصارح إحدى الأسيرات الأخريات بإحساسها هذا ولكنّها احجمت في اللحظة الأخيرة من قبيل الاحتراز.

لأول مرّة في حياتها تشعر أنّها امرأة موضع حفاوة واحترام وتقدير ورعاية من ذكور لا يبتزّونها باسم المساواة، ولا يتودّدون إليها أملا أن يصيبوا منها وطرا أو منفعة.

كان يدهشها من حرّاسها إلى جانب لطافتهم ودماثتهم كيف يغضّون أبصارهم عندما يتعاملون معها هي وزميلاتها، وتقارن ذلك بالنظرات المسعورة التي اعتادت أن يرمقها بها الذكور من أبناء جلدتها، حتى المتدينيين منهم، وهي النظرات التي تسببت لها فترة مراهقتها بعقدة جعلتها تكره جسدها الطافر وأنوثتها المتفجّرة، ودفعتها للتصابي ودفن تضاريسها وراء ملابس رياضية رجالية فضفاضة.

إحدى قريباتها الغيورات اتهمتها أيامها بالشذوذ، وأذاعت هذه الإشاعة في أوساط العائلة وبين أقرانهما في المدرسة.

أحد رجال الدين المقرّبين من العائلة حاول التدخّل عندما تناهت إلى مسامعه الإشاعة، وتبرّع بإخضاعها إلى دروس وعظ وإرشاد مجانية، مع أنّه هو نفسه كان قد سبق له التحرّش بها عندما كانت ما تزال على أعتاب البلوغ.

في اليوم التالي استيقظت مُكرهة، وسارت مع الركب عبر جميع مراحل عملية تبادل الأسرى كالمخدّرة، وكم كانت تتمنّى لو تستطيع أن تعانق حرّاسها فردا فردا قبل أن تودّعهم الوداع الأخير.

عندما تمّ إطلاق سراحها أخيرا لم تجد والدتها في انتظارها، فوالدتها قد انقطعت أخبارها منذ قررت هجرهم والذهاب للعيش مع عشيقها الذي يصغرها بعشرين سنة في نيويورك.

ولم تجد والدها، فوالدها غائب منذ قرر العودة إلى باريس لمباشرة شركاته وأعماله هناك بمعية عشيقته عارضة الأزياء الأوكرانية المغمورة، والتي تدّعي أنّها ذات أصول يهودية رغم مسيحيتها الأرثدوكسية الظاهرة.

فقط جدّتها لأمّها ذات الأصول العراقية كانت في انتظارها، وحدها كانت تعطف عليها و"تحنحن" عليها وترعاها بحكم شرقيّتها الطاغية.

ارتمت في أحضان جدّتها وهي تقاوم مُكابِرةً رغبتها العارمة بالبكاء.

الجدّة كانت كمن تقرأ أفكار حفيدتها المذعورة، فبادرتها هامسة في أذنها وكأنّها تستأنف أحاديثا سابقة: "لماذا عُدتِ؟!".. فانفجرت "سارا" في النحيب!