جيش من المحامين يلاحق جرائم اسرائيل امام محكمة روما



قتلُ أفرادِ الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كلّيًّا أو جزئيًّا، هذا ليس تعدادًا للجرائم التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ بداية عدوانها عليه في 7 أكتوبر 2023 فحسب، إنّما هو وصف القانون الدولي النصّي كما جاء في المادة 6 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للأفعال التي يعتبر ارتكابها بغرض إهلاك جماعة معينة إبادةً جماعية.

بينما تتمادى إسرائيل في تنفيذ هذه الجرائم في قطاع غزة، وضعت مجموعة من أكثر من 500 محامٍ و118 منظمة غير حكومية المحكمة الجنائية الدولية تحت اختبارٍ حقيقيّ لفعاليتها في تحقيق العدالة، وذلك من خلال تقديم شكوى إليها بشأن جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق سكّان قطاع غزة.

ومن المهم بمكان هنا التذكير بأنه سبق للغرفة التمهيدية في المحكمة أن أصدرتْ قرارًا في العام 2021 يؤكّد صلاحياتها القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة بناء لطلب السلطة الفلسطينية في العام 2015. كما يجدر التذكير بأن مكتب المدعي العام كريم خان فتح تحقيقاً في الجرائم المرتكبة في فلسطين منذ 7 تشرين الأول وما بعدها، عطفا على التحقيق الذي كان باشر فيه في قضية فلسطين منذ آذار 2021. كما أطلق منصّة لاستلام الأدلّة والشهادات، الأمر الذي منح ضحايا الجرائم أملاً في تحقيق العدالة التي لم يزالوا بانتظارها.

ماذا في الشكوى؟
اعتبر المحامي الفرنسي جيل دوفير الذي يقود الفريق القانوني للادّعاء، أنّه بات للفلسطينيين جيشٌ من المحامين للدفاع عنهم. كما دعا جميع من يملك معطيات تدين إسرائيل إلى الانضمام للدعوى التي قدّمت لدى مكتب المدعي العام الدولي في لاهاي، وقد لاقت دعوته تجاوبًا إيجابيًّا من حقوقيين ومحامين حول العالم.

تجمع الشكوى طيفًا واسعًا من الحقوقيين والمحامين المتطوّعين المستقلّين والذين يمثلون منظمات غير حكومية من جميع أنحاء العالم اجتمعوا بمبادرة من المحامي الفرنسي بهدف عرض القضية الفلسطينية أمام المحاكم الدولية ومحاسبة إسرائيل على جرائمها وإيصال رسالة إلى الفلسطينيين أنّهم ليسوا وحدهم. وتستند الشكوى إلى نظام روما الأساسي، وتحديدًا المواد المتعلّقة بالإبادة الجماعية. وهي تعتبر أنّ حرمان سكان القطاع من العناية الطبية والاستشفائية ومنعهم من الوصول إلى مياه الشرب بالإضافة إلى تهجير السكان وعمليات القصف اللاإنسانية على المدنيين، التي اقترنت مع تصريحات تجرّدهم من صفتهم الإنسانية تبريرًا لقتلهم إنما تشكّل في مجموعها جريمة إبادة جماعية.

وقد صرّح المحامي دوفير بأنّ الدليل واضح على ارتكاب المسؤولين الإسرائيليين هذه الجرائم من خلال إعلانهم المسبق عن النية في ارتكابها، فهم قالوا سنقطع الكهرباء وقطعوها، وسنمنع الغذاء فانقطع الغذاء، وأمروا بإخلاء المنازل فأُخليت المنازل، معتبرًا أن لا صعوبة في إثبات ذلك. وفيما تشكّل هذه الشكوى إجراء أوّليا لتقديم الأدّلة للمحكمة، أكّد دوفير اعتزامه على البدء بالإجراء الثاني وهو المتعلق بتقديم ادّعاء من الضحايا الفلسطينيين في غزة من عائلات ومستشفيات الذين بدأ بجمع توكيلات من قبلهم للادّعاء شخصيّا.

كما ترتكز الشكوى على عدد من الأدلة البصرية الموّثقة التي تثبت ارتكاب إسرائيل لهذه الجرائم، وتعتمد على سابقتين قضائيتين دوليتين، هما قضيتي الإبادة الجماعية للروهينجيا في ميانمار والإبادة الجماعية في سربرنيتسا (في يوغوسلافيا سابقًا) خلال الحرب في البوسنة والهرسك والتي راح ضحيتها حوالي 8400 قتيلًا، علمًا أنّ عدد الشهداء الفلسطينيين منذ بدء العدوان على غزة تجاوز 13000. ومع الإشارة إلى أنّ المحكمة في بعض القضايا لم تكتفِ بإدانة المسؤولين السياسيين والعسكريين، كما هي الحال في قضية الإبادة الجماعية في رواندا، حيث طالت الإدانة مسؤولين إعلاميين نتيجة تحريضهم على المذبحة، ما يفتح الباب واسعًا للبحث في المسؤولية الجرمية لبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية في التحريض على إبادة الفلسطينيين وتبريرها.

تجدر الإشارة إلى أن دوفير نفسه كان قد تقدّم سابقًا بأكثر من دعوى ضدّ إسرائيل إحداها بتكليف من وزير العدل الفلسطيني سليم السّقا حول جرائم الحرب في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، وأخرى بتكليف من أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني في حزيران من العام 2023 موضوعها الحصار المفروض على غزة.

ليست هذه الشكوى الأولى ولن تكون الأخيرة

إنّ حجم الجرائم المرتكبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي في غزّة وبشاعتها، دفعت عددًا من الجهات والأشخاص لتقديم شكاوى مماثلة أمام المحكمة. فقد قدّمت منظّمة مراسلون بلا حدود شكوى في 31 تشرين الأول حول "جرائم الحرب المرتكبة ضدّ الصحفيين في إسرائيل وفلسطين”. وتتعلق الشكوى بظروف مقتل تسعة صحفيين أثناء ممارستهم لواجباتهم، بينهم ثمانية فلسطينيين، وتدمير 50 ​​مقراً تابعاً لوسائل الإعلام في غزة.

كما تقدّمت ثلاث منظمات حقوقية فلسطينية (الحق، والميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان) بشكوى في 8 تشرين الثاني بتهمة ارتكاب "جرائم حرب” و”الفصل العنصري” و”الإبادة الجماعية” و”التحريض على الإبادة الجماعية”، وطلبت إصدار مذكرات توقيف بحق ثلاثة قادة إسرائيليين. وتشير الشكوى إلى "قصف منطقة مكتظة بالسكان، وحصار غزة، والتهجير القسري لسكانها، واستخدام الغاز السام، والحرمان من الضروريات مثل الغذاء والماء والبنزين والكهرباء”.

وفي 17 تشرين الثاني، أعلن مكتب المدعي العام عن استلامه إحالات تطالب بالتحقيق في الجرائم المرتكبة في غزّة من قبل خمس دول، وهي جنوب أفريقيا، بنغلادش، بوليفيا، جزر القمر وجيبوتي. وكان رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا قد اعتبر بأنّ دولته تعتقد بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة حيث قتل آلاف الفلسطينيين ودمرت المستشفيات والبنية التحتية. كما تعتزم نقابة المحامين في تركيا مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة بجرائم الحرب في عدوانها على غزة أيضًا.

ماذا يُنتظر من المدعي العام؟

تتّسم الإجراءات لدى المحكمة الجنائية الدولية بالبطء والتعقيد، الأمر الذي يقوّض من فعاليتها ويضعها في محل انتقاد دائم. وتتضمن إجراءات التحقيق الشامل التي يجريها المدعي العام جمع الأدلة والتحقق من الشهادات وجمع المعلومات لتحديد ما إذا كان هناك ما يكفي من الأدلة لتوجيه الاتهام. في هذه المرحلة، وإذا ما وجدت أدلة كافية، يمكن للمدعي العام أن يوجّه إلى الدائرة التمهيدية طلبًا لإصدار مذكرات توقيف أو استدعاءات ضد الأفراد المشتبه بهم في ارتكاب جرائم ضمن اختصاص المحكمة. لتتوالى بعد ذلك الإجراءات من الاستجواب إلى الاتهام ثم المحاكمة، فمناقشة الأدلة واستماع الشهود وتقديم المرافعات، وصولًا إلى الحكم، ثم الاستئناف، فالحكم مجددًا. وهذه الإجراءات قد تتطلّب سنواتٍ طويلة لاكتمالها إذا ما بلغت المحاكمة هذه المراحل.

هذا في حين تمتنع إسرائيل حتى اليوم عن الانضمام إلى اتفاقية روما، وترفض الاعتراف بصلاحية المحكمة التي سبق لإسرائيل أن اتهمتها بأنها متحيزة ضدّها وبأنّ لا صلاحية لها كون الفلسطينيين ليس لديهم دولة أو حدود محددة. كما اتهمتها بأنها معادية للسامية، وهي التهمة الجاهزة التي استخدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي ضد قرارات المحكمة والمدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، واعتادت اسرائيل على استعمالها في مواجهة الجهات الدولية ومنها لجان التحقيق وتقصّي الحقائق التي سبق أن عرضت "المفكرة” سياسة إسرائيل تجاهها.

إلا أن عدم اعتراف إسرائيل بصلاحية المحكمة التي تُحاكم الأشخاص الطبيعيين لا الدول، وعدم انضمامها إلى نظام روما، لا يغيّران شيئًا من إمكانية إدانة قادتها وإصدار مذكرات توقيف بحقّهم، تبعاً لإعلان المحكمة اختصاصها في العام 2021. وهذا ما أكدّه المحامي دوفير الذي اعتبر أنّ ما يقوم به نتنياهو اليوم يفوق في إجرامه ما قام به الرئيس الروسي بوتين الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بحقه مذكرة توقيف غيابية في العام الحالي لضلوعه في جرائم الحرب المرتكبة في الحرب مع أوكرانيا.

وعليه، لن تكون، في هذه المرحلة على الأقل، مهمة المدعي العام لدى المحكمة كريم خان سهلة، بل ستعتريها عقبات قانونية وقضائية ستستخدم لتعطيل التحقيق وإصدار الاتهام، فضلاً عن ضعف الموارد المتوّفرة لإجراء التحقيقات. ولكن التحدّي الأبرز الذي من المتوقّع أن يواجهه المحامي البريطاني هو الطعن في مصداقيته واتهامه بالانحياز ومعاداة السامية، وهي حملات اعتادت إسرائيل على تنظيمها في وجه أشخاص القانون الدولي الذين ينظرون في جرائمها، وخصوصًا في حال قرّر توسيع دائرة التحقيق لتشمل المحرضين والمسهلين والمساهمين في هذه الجرائم.

أهمية الحراك القضائي الدولي

تكمن أهمية المحكمة في تميّزها عن سائر الأجهزة الدولية بأنها جهاز مستقل عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن اللتين تسيطر عليهما القوى الدولية الكبرى، وبخاصّة الولايات الأمريكية المتحدة التي لا تشترك في تمويل المحكمة وهي غير موقّعة على نظامها أصلًا، لذلك يعوّل عليها في إجراء تحقيق نزيه والوصول إلى نتائج عادلة، وفي أن تكون سلاحًا فعّالاً ضمن أسلحة المواجهة التي يستخدمها الفلسطينيون في معركة تحرّرهم.

ومن شأن هذه النتائج إذا ما خلصت لاتهام مسؤولين إسرائيليين ثم إدانتهم، أن تُحرج الدول الداعمة لإسرائيل بحيث يصحّ اعتبارها عندئذ ممولة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أو مساهمة فيها أو داعمةً لها. كما أنها تشكّل ضربة معنوية قاسية لإسرائيل إذا أدين قادتها، فضلاً عن الإحراج الدولي لها، بالإضافة إلى تداعيات قانونية أخرى مثل الحدّ من قدرتهم على السفر والتواجد على أراضي الدول المصادقة على نظام روما والتي يبلغ عددها 123. كل هذا، إذا تحقّق، قد يكون من شأنه أن يخفّف من الهمجية الإسرائيلية ويهذّب جنون القادة الإسرائيليين ووحشيتهم.

وكما دوليًا، تظهر مبادرات مقاضاة وطنية في دول الغرب بشأن الجرائم التي تقع في غزة، إذ إنّ أصواتًا داخليةً ارتفعت مؤخرًا في بعض هذه الدول ضدّ المسؤولين الذين يغطون جرائم إسرائيل. وتُرجمت قضائيًا على شكل دعوى قدّمتها منظمات حقوقية ومواطنين أميركيين في الولايات الأمريكية المتحدة ضدّ الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته ووزير دفاعه لمحاسبتهم عن فشلهم في منع الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة.

وكذلك وجّه المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين (وهو تجمّع لمحامين وأكاديميين وسياسيين مسجّل في إنكلترا) إنذارات إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك وقياديين في حزب العمل البريطاني وإلى أعضاء الحكومة الكندية يحذّرونهم فيها من أنّهم قد يواجهون ملاحقة قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية إذا ظهرت أدلة على أنهم سهلوا الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي.

ها هي المحكمة إذًا اليوم أمام اختبار حقيقي لمصداقيتها وعدالتها ونزاهتها، فهل تعيد ثقة ضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية حول العالم بالقانون الدولي والعدالة الدولية، أم أنّها تثبت الاعتقاد القائم على أنّها محكمة منحازة ووظيفتها محاكمة المهزومين أو أيضا ارتكابات دول الجنوب فحسب؟