هدنة
كأنها هدنة التقاط الأنفاس .. لا الصور .. لا تناول كوب من الشاي الساخن عند عتبات البيوت عندما كان ثمة عتبات.. لا جلوس في المقاهي على شاطئ غزّة وإدارة حوار عن عاشقة تركها عشيقها كي يطلق قذيفتين تجاه كيسوفيم أو زيكيم أو سديروت أو أسدود أو عسقلان، لكنه لم يعد حتى الآن .. لا تناولا للمعجنات وشطائر الجبنة وبعض اللحم المقدد وشرائح الستيك .. لا احتساء لفنجان قهوةٍ عند الغروب برفقة المحبوب.. ربما هي فرصة للجلوس تحت الشمس قليلا .. إحصاء الندوب في القلوب .. تفقد تلفت القلب والدرب.. حصر عديد الأقارب والأصدقاء والجيران الذين اختفوا من قوائم الحياة اليومية .. البحث عن بقية حلم لم يكتمل .. المكوث عند بيوت مهدمة وأطلال حارات وياسمينة ما زال عطرها يفوح بين الركام.. محاولة الاستماع لشغب الأطفال وهم يلهون عندما كانت الحياة سانحة لذلك .. الانتقال من صفة النزوح بعد اللجوء إلى صفة من لا مأوى لهم .. العالقون على معابر المذلة والهوان يعودون إلى المعتقل المفتوح .. فرصة للتأكد من مدامع البكاء على الجرحى والمفقودين.. النظر الى السماء دون الخشية من سقوط قنبلة فسفورية.. السير بين الردم على أمل سماع أصوات من هم تحته .. التحقق مما تبقى من مشاعر وعواطف غير مستهلكة يمكن الاستفادة منها عند إنتهاء الهدنة ..
بالتأكيد لن يسنح الوقت والهدنة لالتقاط صور سلفي أو عمل لايفات على التيك توك أو الدخول في مساجلات وجدالات عديمة الجدوى مع من يتبنى شعار فلسطين ليست قضيتي ..
كأنها فرصة للبكاء بحجم الفجيعة .. حين يشاهدون اللوحات السريالية للمباني والشوارع التي ما كانت تأخذ هذا الشكل حتى لو مرّ عليها أعتى الزلازل والأعاصير..
ستعود تلك العجوز باحثةً عن دجاجاتها وبعض نباتات الحوش على أمل أن تجد شيئاً من الماء فتسقيها.. سيعود ذاك الطفل باحثاً عن حقيبة مدرسته وعن طابته وعن حصالةٍ كان يضع فيها آمالاً عريضةً عند فتحها ليشتري بعضاً من الفرح..
سيعود ذاك الطالب الجامعي الذي أوقف حلّ الأسئلة والمعادلات مع سقوط أول صاروخ، يريد أن يتحقق من مخزون ذاكرته ..
سيعود ذاك الرجل المبتورة أقدامه منذ الحصار الأول على غزة قبل عقدين من الزمان، وهو في غمرة إحصاء إصاباته، كأنه نسي أو تناسى فقدانه لبعض أصابع يديه، لم يعد القلب يحتمل كل تلك الأوسمة من التضحيات..
ستعود تلك المرأة التي وجدت نفسها ذات ربيع عمر تشاهد كيف يرتقي الآباء سلّم الشهادة، فتستكمل الطريق يتيمة، لكنها أعادت ترميم جدران نفسها ونهضت كي تربّي أبناء على مواصلة الطريق المكتظ بالدماء والشهداء..
قلت في البداية كأنها فرصة التقاط الأنفاس، أعتذر لأنها ليست فرصة لشيء، فلا هي لتضميد الجراح، ولا هي لتجفيف بحر الأرواح.. إنها لا تكفي لمجرد الحسرة على ما جرى.. إنما هي التأني قليلاً في تجرّع الوجع والألم .. هي غزّة التي لم يعد لأهلها أية متطلبات أو متعلقات.. فقط ..
القليل القليل من الرغبات والاحتياجات والطلبات .. الكثير الكثير من الأنفة والمجد والاعتزاز ..