استئناف المهمة القذرة!
منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة والتهجير التي أطلقها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني بذريعة "طوفان الأقصى"..
وقبل حتى أن تتخذ المجريات على الأرض مسارها وتتحدّد ملامحها..
أفصحت غالبية القوى والدول المعنية مبكّرا عن تصوّرها لمرحلة "ما بعد الحرب"، وللتسوية النهائية المأمولة في المنطقة: حلّ الدولتين والسلام الاقتصادي.
هذا التصوّر هو الذي حدّد الشكل الذي اتخذه العدوان خلال الخمسين يوما الأولى من القتال: حرب استنزاف!
بعيدا عن كلّ "الجعجعة" السياسية والإعلامية التي رافقت حرب الإبادة والتهجير، حقيقة الأمر أنّ أحدا حول العالم لم يُقدم على أي فعل عملي حقيقي على أرض الواقع لثني الطرفين عن الاستمرار في القتال، أو لإجبارهما على التوقف عن القتال.
تصريحات ومطالبات ومناشدات وإدانة وندب وشجب وزيارات ولقاءات واجتماعات ومؤتمرات وقمم وحبر على ورق وقرارات غير ملزمة، ولكن ولا خطوة عملية واحدة لوقف القتال.. لماذا؟
لأنّه لا أحد يريد أيّا من الطرفين في مرحلة ما بعد الحرب!
لا أحد يريد نتنياهو وعصابة حربه ويمينه المتطرّف بكونهم المعارضين المتبقين الوحيدين في العالم لما يسمّى حلّ الدولتين؛ فهم يريدونها دولة صهيونية واحدة من البحر إلى النهر (ولاحقا من النيل إلى الفرات)، لا مكان للفلسطينيين والعرب فيها، والسلام الاقتصادي يعني بالنسبة لهم أن تكون جميع مقدّرات وثروات المنطقة ملك يدهم ورهن إشارتهم وتحت تصرّفهم (بزنس من طرف واحد).
ولا أحد يريد المقاومة الفلسطينية المسلحة ممثلا للشعب الفلسطيني، و"الشريك" الذي سيضطر الجميع للجلوس معه على نفس الطاولة، والتفاوض معه (ومن خلفه تيار الممانعة)، ليس فقط للاتفاق على الترتيبات السياسية، بل ومن أجل تقاسم خيرات وعوائد وبركات "السلام الاقتصادي" الموعود.
جميع تصوّرات ومشاريع السلام الاقتصادي المطروحة تقوم على افتراضين أساسيين: غزّة غير موجودة، وليس للفلسطينيين حصة أو نصيب إلا الفتات الذي نعطيه لسلطة صورية وظيفتها الضبط والربط و"التنسيق الأمني".
بكلمات أخرى: لماذا ندفع مقابل ما يمكن أن نأخذه ببلاش!
و"ببلاش" هذه في العقل الصهيوني الاستعماري للنظام الرأسمالي العالمي تعني الإبادة والتهجير!
ما ثمنه أرواح ودماء الناس أمره هيّن وبسيط!
خلال الخمسين يوما الاولى تمّ إنجاز النصف الأول من المهمة: حرق أوراق نتنياهو وعصابة حربه واليمين الإسرائيلي المتطرّف.
والآن باقي استكمال النصف الثاني للمهمة: التخلّص من المقاومة المسلحة!
والتخلّص "الفعّال" والنهائي من المقاومة لا يتحقق من خلال إلحاق بعض الهزائم الميدانية بها، أو تكبيدها خسائر بشرية، أو القضاء على بعض قياداتها، أو تجفيف مواردها وقطع سلاسل إمدادها.. بل يتحقق من خلال سلبها عاملي القوة الأساسيين اللذين يمنحانها كلّ هذه القدرة على الفعل والصمود والتجدّد: الحاضنة الشعبية والأرض.. أي مرّة أخرى الإبادة والتهجير!
لا عجب إذن أن يُستأنف القتال بعد هدنة مقتضبة، وبمباركة وأوامر أمريكية مباشرة بعد زيارة "بلينكين" للمنطقة، لماذا؟ لأنّ المهمة لم تنتهِ بعد!
ومَن أفضل مَن يتمم هذه المهة القذرة؟
"نتنياهو" وعصابة حربه الذين تلطخت أسماؤهم وحُرقت أوراقهم بالفعل، والذين سيحرّكهم إلى جانب حقدهم وغيظهم، أملهم بتجنّب المساءلة والمحاكمة والسجن بعد الحرب، أو رغبتهم بالخروج على الأقل بتقاعد مريح ومكافأة نهاية خدمة مجزية بما أنّ مستقبلهم السياسي قد ضاع تحت أقدام المقاومة!
وكالعادة، وكما هو الحال منذ اليوم الأول، الكلمة الفصل للميدان، ولأهالي غزّة، وللشوط الذي يمكن يقطعه تيار الممانعة في دعمه للمقاومة.. ولذلك الافتراض الضعيف، ومع هذا نصرّ على إقناع أنفسنا أنّه موجود، بأنّه ما يزال هناك في دول الطوق وبقية الدول العربية شيء اسمه "دولة عميقة" تدرك أنّ أمنها الوطني والقومي على المحك، وأنّ الدور سيأتي عليها تاليا بعد الانتهاء من غزّة!