غزّة ومعركة الوعي: ما الذي تغيّر؟!
حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني على أهالي غزّة والضفة الغربية وعموم فلسطين كجزء من مخططاته المبيّتة لم تتغيّر. والدعم الأمريكي والغربي المطلق لجرائم الكيان الصهيوني عسكريا وماليا وسياسيا وإعلاميا ولوجستيا لم يتغيّر. وتخاذل مواقف الدول العربية والإسلامية، واكتفائها بالندب والشجب والاستنكار والمناشدة والتحذير لم يتغيّر.
ورفض الدول العربية والإسلامية استخدام الأوراق التي تمتلكها ضد الكيان الصهيوني، كقطع العلاقات الدبلوماسية، وتجميد أو إلغاء المعاهدات الموقّعة، ووقف التبادل التجاري وواردات النفط والطاقة والمواد الغذائية إلى الكيان.. لم يتغيّر.
وانجرار الإعلام العربي، حتى المناصر في ظاهره لغزة والمقاومة، وراء الأجندة الإعلامية للعدو، سواء من خلال استخدام معجم مصطلحاته، أو تسقّط تصريحات مسؤوليه، أو قلب الآية، وعدم التركيز على خسائر العدو واهتزاز جبهته الداخلية في مقابل بطولات المقاومة وصمود أهالي غزة الأسطوري، والتركيز بدلا من ذلك على مناظر القتل والدمار واجترار المراثي وتوجيهها لغير جمهورها المستهدف.. كلّ ذلك لم يتغيّر.
فما الذي تغيّر في غزّة إذن؟!
الذي تغيّر هو نحن!
الناس بعد مرور عدّة أيام، فما بالنا بعد أكثر من خمسين يوما، يعتادون مناظر القتل والدمار والدم والجثث والأشلاء، ولا تعود تؤثر فيهم كما كانت تؤثر في السابق.
والناس مع مرور الوقت تُستنزف عواطفهم ومشاعرهم، ولا يعود التحفيز العاطفي وحده كافيا لشحذ همتهم، واستنهاض إرادتهم، ومنحهم الطاقة والزخم للمواظبة على المواقف والسلوكيات التي تبنّوها منذ اليوم الأول.
وعند هذا النقطة يدخل الناس في دوامة من استمراء حالة الضعف والهوان والخذلان، أو جلد الذات، أو نفاق الذات من خلال إقناع أنفسهم أنّهم عاجزون، ولا يملكون من الأمر شيئا، وليس هناك ما يستطيعون القيام به لتغيير الواقع ونصرة أهالي غزة.
ومنهم من يبدأ بطريقة ضمنية ولا واعية في لوم المقاومة وأهالي غزة، وأنّهم بعنادهم يتسببون في استمرار الكارثة (وينسون المجرم الأساسي)، ويتمنون في قرارة أنفسهم لو يغمضون أعينهم ويفتحونها في اليوم التالي فيجدون أنّ كل شيء قد انتهى، والكابوس قد توقّف، ليعودوا إلى مزاولة حياتهم الاعتيادية دون أدنى إحساس بالضيق أو التقصير أو تأنيب ضمير!
العبرة هنا، أنّ كلّ هذه الأحاسيس والانفعالات طبيعية، وأن تعوّد الناس أو تلبّد مشاعرهم مع مرور الوقت في مثل هذه المواقف والأحداث هو أمر طبيعي، وأنّ محاولة إنكار ذلك أو محاربته هي معارك نفسية خاسرة حتما لا تؤدي إلا إلى مزيد من الاستنزاف والهوان والعجز!
ما هو الحل إذن؟
الوعي!
الوعي هو السلاح الذي يُعوَّل عليه في مثل هذه المواقف والأحداث.
والوعي لا يعني أن تفهم، وأن يكون لك موقف فكري وتحليلي ونقدي مما يجري، وأن يكون لديك أفكار وقناعات تؤمن بها إزاء ما يحدث.
هذا اسمه الفهم.
أمّا الوعي فهو أن تعي أنّ الأحاسيس والعواطف وحدها لا يعوّل عليها ولا يجوز الركون إليها سلبية كانت أم إيجابية، وأنّ الفهم وحده لا يكفي مهما كان وجيها أو متعمّقا أو مستبصرا، وأنّ المسألة في نهاية المطاف هي مسألة إرادة وامتلاك الإرادة.
وأن تمتلك الإرادة يعني أن تذكّر نفسك عنوة، وتعيد تذكيرها مرارا وتكرارا بالثوابت والمبادئ، مهما طرأ من مستجدات وحيثيات وتفاصيل.
وأن تتسمك بخطابك، وتعيد التأكيد عليه مرارا وتكرارا، أيّا كانت المزالق والدهاليز التي يحاول الآخرون جرّ النقاش إليها.
وأن تجبر نفسك على الاستمرار بالقيام بما ينبغي عليك القيام به، بغض النظر عن دافعيتك وحالتك النفسية، وبغض النظر عن مدى اقتناعك الشخصي بالجدوى والتأثير العمليين لما تقوم به.
وأولى الأولويات هنا الاستمرار بالمقاطعة والتظاهر والتعبير عن الرفض والمطالبات كأضعف الإيمان مهما تطاول الوقت، وأيّا كانت الحجج والمعاذير والمهاترات التي يسوقها رافضو ذلك.
الوعي يعني امتلاك التمييز والإرادة لأن تتحكم في مشاعرك وانفعالاتك لا أن تتحكم هي بك، ولأن تحوّل أفكارك وقناعاتك إلى سلوك عملي ملموس.
بهذه الطريقة تتحوّل "المقاومة" إلى نمط حياة وأسلوب عيش وسلوك يومي مُمارَس.
هذا هو سر المقاومة وأهالي غزّة، وهذا هو الدرس الأكبر الذي يمكن أن نتعلمه منهم، حالة الوعي بالذات والوعي بالعدو والوعي بالصراع التي يمارسونها ويعيشونها كروتين يومي، مع أنّ مشاعرهم وانفعالاتهم هي نفس مشاعرنا وانفعالاتنا، وتطلعاتهم وآمالهم في الحياة هي نفس تطلعاتنا وآمالنا، وأفكارهم وقناعاتهم التي يؤمنون بها هي نفس أفكارنا وقناعاتنا التي نعلنها.
ومن هنا قول السابقين أنّ الصبر بالتصبّر.
ومن هنا حكمة بيت الشعر القديم المأثور: والنفس راغبة إذا رغّبتها.. وإذا تُردُ إلى قليل تقنعُ.
ومن هنا كان أصعب الجهاد جهاد النفس.
باختصار، العدو وحلفاؤه وأعوانه يراهنون كجزء من حربهم النفسية على استنزاف مشاعرك وانفعالاتك، وحبس أفكارك في فضاء نظري مجرّد أو فضاء تواصلي جدلي.. والوعي المجبول بالإرادة، وإلزام النفس وإجبارها وإخضاعها هو سلاحك من أجل إحباط مساعي العدو وأساليبه.
بكلمات أخرى، كما تستطيع أن تقنع نفسك وتجبرها كلّ يوم على الاستيقاظ مبكرا، وترك الفراش اللذيذ، والتوجّه إلى عمل لا تحبّه وسط العجقة والازدحام، بينما تلعن في قرارة نفسك كلّ لحظة تمضيها وأنت تفعل ذلك..
تستطيع أن تقنع نفسك وتجبرها كلّ يوم على التمسّك بالثوابت فيما يتعلّق بغزّة وفلسطين والقضية، والاستمرار في القيام بما ينبغي عليك القيام به ولو في حدوده الدنيا!