إنّه حقًّا ببغاء حرّ وشجاع!



ترويض الببغاوات ليس بالأمر السهل، ومن إقتنى وجرب ترويضها مثلي من قبل يعرف تمامًا مدى قوة عضة ذلك المنقار الغليظ المعكوف، خاصة تلك التي يملكها البري منها، لا تلك التي تنتج بالأسر أو الأقفاص فى مزارع خاصة.

مرّة اشتريت أحدها، تلك البريّة، ولم يكن قد مر على إصطياده وأسره من غابات إفريقيا سوى بضعة أيام. كان يصرخ ويهاجم لكنى لم أهتم لجعجعته كثيرًا، فأنا أعرف تماما نقطة ضعفه، وأعرف كيف أجعله يخنع ويستسلم ليقف بعدها على يدي ويردد كلماتي. الأمر بسيط. سأحرمه من الطعام ليوم كامل، ثم أطعمه بيدي بعدها ليحس بالأمان، ويأتيني بعدها طائعًا وراغبًا. كيف لا وأنا ولي نعمته؟

مر يوم كامل دون أن يستسلم. مدّدت المهلة لساعات إضافية، لكنه مصمّم ولا يقترب لالتقاط طعامه. أحضرت له الفول السوداني، الطعام المفضل الذى لا تقاومه الببغاوات، فاقترب قليلًا، ثم اقترب أكثر ببطء وتردد شديدين. ظننت عندها أنه خضع ونجحت خطتي، إلا أن ردة فعل الطائر جعلتني أتوقف عن ممارسة هذه الهواية نهائيًّا فيما بعد. صدّقوا أنه أخذها من يدي ثم نظر لي بإحتقار وألقاها للأسفل!

كم كنت بغيضًا وكريهًا عندما سمحت لنفسي بأن أمارس الإذلال والتًجويع لأخضع أحد مخلوقات الله. أدركت حينها أن معاناتنا وحالنا واحدة، فأوطاننا غدت أقفاصًا، وهناك من يمدّ يده لنا بالفتات كل يوم ليطوّعنا ويجبرنا على تنفيذ طلباته ورغباته.

استسلمت أجيال سابقة من الببغاوات، واعتادت الخنوع والخضوع، فأنتجت سلالات عديدة من بعد ظنت أن الأقفاص هي أوطانها وليس ذلك الفضاء الرحب والغابات والواحات الواسعة. لقد أخبرها أجدادها الخانعون أن الحرية خطر جسيم، فإياكم والهروب. احذروا: ستأكلهم الصقور والنسور. هي الأقفاص وحسب، وحدها ملاذكم الآمن الذى يحميكم ويطعمكم. ماذا تريدون بعد؟

كان هذا مدخلًا لأحدثكم عن السؤال الخبيث الذي يُتداول بكثرة، وتقف وراءه الأجندات السياسية المعروفة التي نبدو في نظرها كالببغاوات: ماذا تُفضّل ايها المواطن، الحرية أم الأمن؟ وسأجيبكم أنا بسؤال مضاد: ماذا ستختار وتفضل أيها الوغد، الماء أم الهواء؟

 
سيقولون لك: "انظر إلى حال سوريا والعراق واحمد ربك على نعمة الأمن." طيّب، لماذا لا أعيش آمنًا وحرًّا معًا، وهل غدت هذه الدول نموذجًا يحتذى لنقارن أنفسنا به. جميعنا نعرف أن ما آلت إليه تلك الدول كان نتيجة لصراعات وتناحرات إقليمية، وأجساد شعوبها وأشلائهم ما هي إلا وقود يغذي الصراع المستعر فيها دائما.

الغريب بالأمر أن كثير منا بات ينساق وينقاد وراء مكر وخداع هؤلاء الذين جعلوا من أوطاننا أقفاصًا موصدة بأحجام ومقاسات مختلفة، تتناسب طرديًّا مع حجمك ومكانتك عندهم؛ خائن من غادرها، وآمن من بداخلها.

عزيزي، اعلم أن الأمن وحده سيجعل منك ببغاءً، تُردد وراءهم ما يقولونه دومًا، تصفر وترقص لتسعدهم، ومن ثم سيجودون عليك بالقليل من القليل وإن لم يكفيك و يرضيك، ستصبر لأنك خائف من الحرية التي لا تعرف مصيرك فيها، ويسيطر على رأسك وهم النسر والصقر بشكل دائم. وإذا ما منحوك الحرية وحسب، اعلم حينها أنهم سيطلقون عليك كل مفترسات الغابة ووحوشها حتى تهرول مسرعًا نحو قفصك وسجنك، تحمد الله على ما وهبك وأنعمه عليك!

فى دول غربية عديدة، يُمنع تنفيذ حكم الإعدام قتلًا أو شنقًا وبشتى الوسائل، ويكتفون بالسجن المؤبد، ذلك أنهم يعتقدون أن تقييد الحرية هو موت ونهاية لحياة الإنسان. لا أريد أن أبدو معجبًا بهم وبقوانينهم، وإنما أردت أن أحدثكم عن الجانب المهم عندهم فى تعريف الحرية وأهميتها بالنسبة للإنسان لا أكثر، ومن هذا المنطلق، أستطيع الجزم أننا جميعا محكومون بالمؤبد في أوطاننا دون أن ندري.

لا بد لنا من العودة إلى طبيعتنا يومًا، وإن طالت عذابات السجن وآلامه. سيأتي جيل يرفض الذل والخنوع، يعيدنا أحرارًا كما يفترض فينا أن نكون، نعض يد السجان بذلك المنقار القوي المعكوف، فاحذرونا.

ودمتم.