أهل غزة بشر حقيقيون!



فرق كبير بين إعجابنا بأهل غزّة من قبيل التأسّي بهم، وإحساسنا بالتقاعس والتقصير والذنب تجاهم.. وبين إعجاب هو من قبيل "التهواية" لهم، ووضعهم "بوز مدفع" إزاء أعداء الخارج والداخل!

وهنا نسأل: هل يخاف أهل غزّة؟

نعم، يخافون خوفا ترتعد له فرائص أشجع الرجال وأعتاهم، وتبلغ قلوبهم الحناجر في اليوم والليلة مائة مرّة!

وهل يألم أهل غزّة؟

نعم، يألمون ألما مهما بلغت رهافتنا وإنسانيتنا التي ندّعيها وقدرتنا على "التقمّص الوجداني"، فإنّنا عاجزون عن تخيّل وتمثّل واحد على ألف من هذا الألم!

وهل يحزن أهل غزّة؟

نعم، يحزنون حزنا لو وُزّع مقدار أنملة منه على سكان الأرض لغمرهم.

وهل يهتزّ يقين أهل غزّة؟

نعم، يهتز يقينهم لدرجة يظنّون معها بالله الظنونا!

ولكنّ برغم كلّ هذا، برغم خوفهم الإنساني، وألمهم الإنساني، وحزنهم الإنساني، واهتزاز يقينهم الإنساني، نجدهم قادرين على اجتراح ما يجترحونه من صمود أسطوري وبطولة أسطورية، ويرجّحون إيمانهم بالله، وثقتهم بوعده وعدله، وحبّهم لوطنهم وانتمائهم.. وهذا هو سرّ عظمتهم!

سرّ عظمة أهل غزّة أنّهم بشر، بشر حقيقيون، بشر حقيقيون من لحم ودم وعظم وضمير وعواطف وانفعالات وعقل وأفكار وقناعات!

بل يكاد أهل غزّة كمجتمع بشري أن يكونوا أكثر أناس ينطبق عليهم وصف "بشر" حاليا وسط هذا العالم التكنولوجي المتقدّم المتحضّر الذي نعيش فيه، والمكوّن من وحوش بشرية دموية لا تشبع (السلطة)، ومسوخ بشرية خاضعة وخانعة ومستعبَدة للسلطة ونمط العيش (الشعوب)!

سرّ عظمة أهل غزّة أنّهم بشر، وليس أنّهم نوع خاص من البشر، أو يمتلكون خصائص وسمات فوق بشرية!

الغالبية يحاولون المبالغة في إبداء افتتانهم بأهل غزّة، وإسباغ صفات وسمات خارقة عليهم، ووصفهم بـ "الجبّارين".. وهو إعجاب كاذب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب أدرك أصحابه ذلك أم لم يدركوا.

فهناك الذين يسبغون على أهل غزّة صورة "البطل الهوليوودي" التي تعشش في مخيالهم ووجدانهم، وهؤلاء غالبا من اليافعين والفارغين ومواكبي روح العصر، والذين يتعاملون مع حرب الإبادة والتهجير التي تُشنّ على غزّة وكأنّها فيلم سينمائي يتابعونه من وراء شاشاتهم وعبر الشبكة، والذي سينتهي كالعادة نهاية سعيدة بفوز الأخيار وهزيمة الأشرار دون أن يستدعي الأمر تدخّل المشاهدين، أو إذا شعروا بملل أو لم تعجبهم الحبكة ببساطة يغيّرون القناة!

وهناك الذين يتغزّلون بأهل غزّة، ويكيلون إليهم المديح، و"ينفخونهم" زيادة عن اللزوم، وذلك كضرب من نفاق الذات، والتماس العذر لأنفسهم ولخوفهم وجبنهم وتخاذلهم.. باعتبار أنّ القيام بما يقوم به أهل غزّة يستدعي بشرا بمواصفات وقدرات خاصة فوق بشرية لا يمتلكونها هم كبشر "عاديين"!

هؤلاء أنفسهم من تجدهم دائما في حياتهم اليومية يبحثون عن كبش فداء بمسمّى بطل أو نشمي أو "زلمة" أو "زقرت"، حتى يعصبون أي مهمة تستدعي شيئا من الشجاعة والمواجهة والتضحية برأسه، ويعفون أنفسهم من المخاطرة ودفع الأثمان.

وهؤلاء أنفسهم من تجدهم في غمرة تديّنهم الطقوسي يطلقون عبارات مثل: أين نحن من الصحابة؟! أين نحن من السلف الصالح؟! أين نحن من فلان وعلتان من الشخصيات التاريخية؟! ليبرروا لأنفسهم تقاعسهم عن القيام بما قام به الصحابة والسلف وفلان وعلتان!

وهؤلاء أنفسهم هم جماعة ".. فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون"!

وكلا الفريقين، الفارغون والمنافقون، يريدون أن يزيحوا عن كاهلهم المسؤولية، ويلقون عبء القضية وتحرير فلسطين على كاهل أهل غزّة الأبطال "الجبّارين"!

أهل غزّة ليسوا جبّارين، لا بالمعنى المباشر للكلمة، ولا بالمعنى المجازي للكلمة.

أهل غزة ليسوا جبّارين بمعنى انتسابهم إلى القوم الذين كانوا يسكنون الأرض المقدّسة قبل أن يدخلها سيدنا موسى عليه السلام وبنو إسرائيل، والمشار إليهم في الآية (22) من "سورة المائدة"، فهؤلاء الجبّارون هم كفّرة وعتاة ذلك الزمان، والانتساب إليهم مثلبة وليس مأثرة. والأهم، الدخول في هذا الجدل، جدل "الدليل التاريخي" الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، ومَن سكن فلسطين قبل مَن، ومَن دخلها قبل مَن، هو انجراف وراء رواية العدو الأسطورية السمجة ولعبته القذرة التي يحاول من خلالها شرعنة مشروعه الاستعماري الإحلالي هو والدول الاستعمارية التي صنّعته وتقف وراءه.

وأهل غزّة ليسوا جبّارين بمعنى أنّهم ليسوا ضربا من "السوبرمان" الذين يمتلكون صفات وقدرات خارقة.

مرّة أخرى، سرّ عظمة أهل غزة أنّهم بشر، بشر حقيقيون، وإذا كانوا كبشر قادرين على القيام بما يقومون به، فإنّ أيّ إنسان آخر يُفترض نظريا أن يكون قادرا على القيام بما يقومون به!

هذه هي الحُجّة الدامغة التي نحاول أن نتملص منها جميعا، هذه هي الورطة التي تضعنا عراة أمام تخاذلنا وتقاعسنا وخوفنا وجبننا وتشبثنا بالحياة على عواهلها، وتفضيلنا الذلّ مع السلامة على المعاناة مع الكرامة.. وما هو الحل للتنصّل من هذه الورطة، أن نرفع أهل غزة فوق مصاف البشر لأنّ الإقرار ببشريتهم وإنسانيتهم وآدميتهم يُلزمنا الحُجّة.

نفس الحيلة نمارسها بحق المقاومة، عندما نصوّر القتال الدائر وكأنّه يجري بين دولتين متكافئتين، أو جيشين ندّين، ونتناسى أنّ ما يحدث في حقيقة الأمر هو حرب إبادة بربرية تمارسها أعتى دول العالم بكامل ترسانة أسلحتها ومواردها، ضد مقاومين سلاحهم الرئيسي هو الإيمان والتوكّل والإقدام، وما دون ذلك هم أقرب للعزّل إذا ما قيست ترسانتهم وعتادهم إلى ترسانة وعتاد عدوهم!

بكلمات أخرى، الذين يحاولون تصوير أهل غزّة والمقاومة باعتبارهم "خوارق بشرية" لا يقلّون سوءا عن الذين يصفونهم بـ "حيوانات بشرية".

إذا كنّا معجبين حقا بأهل غزّة، ويقين أهل غزّة، وبطولة أهل غزّة، فلنحاول أن نكون مثل أهل غزّة، ونضحّي كما يضحّي أهل غزّة، ونموت على ما يموت عليه أهل غزّة.. أمّا إذا كنّا عاجزين عن نُصرة أهل غزّة بأيدينا أو ألسنتنا أو حتى قلوبنا، فعلى الأقل فلنكفيهم شرّنا، شرّ إعجابنا ومديحنا قبل شرّ انتقادنا وتنظيرنا.

تحرير فلسطين مسؤولية جماعية، والقضية الفلسطينية مسؤولية جماعية، كلّ امرئ من موقعه أو الموقع الذي يستطيع أن يشغله، وفي حدود استطاعته التي لا يعرفها حقا سوى هو نفسه والله تعالى.

وقد يختلف الناس (صادقين أو كاذبين) حول السبيل الأمثل لتحقيق الغاية الواحدة، ولكن متى ما "وقعت الفاس بالراس" فإنّ كلّ انتقاد على الملأ هو طعنة في الظهر، وكلّ تنظير خذلان، وكلّ جدل خيانة.

هذه هي طريقة الناس في التنصّل من المسؤولية وتبرئة أنفسهم منذ فجر التاريخ: يبحثون عن "بطل" خارق يحمّلونه كامل العبء، أو "شيطان" رجيم يحمّلونه كامل الوزر.

أمّا بالنسبة لأهل غزّة أنفسهم، فقد كفّوا ووفّوا حتى ما قبل 7 أكتوبر، وألزمونا وألزموا البشرية كلّها الحُجّة أمام أنفسنا، وأمام فلسطين، وأمام التاريخ، وأمام الله، ولا يستطيع أحد أن يلومهم أو ينتقدهم أو يزاود عليهم أيّا كانت خياراتهم إن سلبا أو إيجابا.

والأهم، أنّهم بشر وليسوا "جبّارين"، وهذا هو سرّ عظمتهم، وسرّ وضاعة الخوّارين والمدّاحين على حدّ سواء!