التهجير في العقيدة والممارسة الصهيونية
(1)
شكلت الارض والديموغرافيا دوماً صُلب النزاع بين المستوطنين الصهاينة وأهل الأرض الفلسطينيين. وكان "منطق الإلغاء" والاقتلاع والاستيلاء على الأرض، في جوهر الاستيطان الكولونيالي. ويشير البعض إلى "المساواة الديموغرافية" الإجمالية الحالية بين العرب واليهود في فلسطين التاريخية (أي بين النهر والبحر)، لكن هذا البعض لا يدرك أن دولة إسرائيل تسيطر بصورة مباشرة على أكثر من 90% من أراضي فلسطين، وأن الفلسطينيين بصورة عامة محصورون في "بؤر" مكتظة بالسكان في قطاع غزة والضفة الغربية، وأن معظم الأراضي بين النهر والبحر مخصصة حصراً للاستيطان الصهيوني.
تأرجحت الصهيونية في نظرتها إلى العرب الأصليين بين عدم الاكتراث، والرفض التام لحقوقهم الوطنية، وإزاحتهم إلى البلاد المجاورة.
وكانت القيادة الصهيونية تواجه ما أسمته "المسألة العربية"، أي إقامة دولة استيطانية ذات أغلبية يهودية في فلسطين، حيث كان الفلسطينيون هم الأغلبية الساحقة من السكان، فأضحى الحل المفضل لدى معظم القيادات الصهيونية هو ما يسمى "الترانسفير"، وهي كلمة مُلطّفة للتطهير العرقي والطرد المنظّم لسكان فلسطين نحو بلاد عربية مجاورة.
(2)
فمنذ أيام مؤسس الصهيونية السياسية تيودور هيرتزل (1860 - 1904)، وصولاً إلى الأب المؤسس لدولة الكيان الصهيوني، وأول رئيس لحكومتها، دافيد بن غوريون(1986 - 1973)، اعتنق جميع الزعماء الصهاينة عقيدة التهجير، أمّا الخلاف فكان ينحصر بالأساليب المعتمدة لتحقيق هذا الأمر.
ومن الجليّ أن بن غوريون وأعوانه الذين سيطروا على الهاغاناه دخلوا في سنة 1948 وهم تحت تأثير مفهوم "الترانسفير"، وكانوا مصممين على حل "المعضلة العربية" الديموغرافية، تلك المعضلة التي كانت بمثابة التحدي الأكبر للحركة الصهيونية على امتداد أكثر من نصف قرن قبل سنة 1948.
وجاء طرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني سنة 1948، والاستيلاء على 78% من مساحة فلسطين الانتدابية، ليضمنا بصورة عامة وغير نهائية، إنجاز هذه الاستراتيجية الصهيونية حيال الأرض والديموغرافيا.
كانت الاستراتيجية الصهيونية ولا تزال تقوم على الحصول على القدر الأكبر من الأرض والعدد الأقل من العرب. وفي الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1948 تم طرد 90% من الفلسطينيين، والاستيلاء على أملاكهم. وفي يومنا هذا فإن أكثر من 50% من الفلسطينيين هم لاجئون، وأكثر من 80% من سكان غزة هم من اللاجئين الفلسطينيين.
(3)
في حزيران 1967 تم طرد نحو 300,000 فلسطيني من الضفة الغربية إلى الأردن، وطبقت العقيدة الصهيونية ذاتها من جانب حزب العمل الحاكم آنذاك، وتم إنشاء المستوطنات اليهودية لا سيما في الضفة والقطاع.
اتخذت هذه العقيدة شكلاً غير رسمي في خطة ألون(1967-1970)، المتمثلة في سيادة إسرائيل على الجزء الأكبر من أراضي الضفة، وتثبيت الجيش الإسرائيلي على نهر الأردن، كما كانت جزءاً أساسياً من عقيدة إسرائيل الدفاعية، وأصبحت مطروحة من جانب جميع حكومات حزب الليكود في الفترة التي تلت اتفاقيات أوسلو، وخصوصاً خلال العقدين الأخيرين.
كانت قضايا الأرض والديموغرافيا، بمثابة الجوهر في الطريقة التي صيغت بها اتفاقيات أوسلو. ولم تعترف تلك الاتفاقيات بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، كالحق في تقرير المصير، وفي إنشاء دولة، وحق العودة.
وفي أوائل التسعينيات كانت هذه الاتفاقيات بالنسبة إلى حكومة اسحاق رابين( 1922 - 1995)، تعني "التعامل مع مشكلة الديموغرافيا العربية" في الضفة والقطاع، وكانت أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية يعنيان في الواقع إعادة النظر في العديد من الأفكار الإسرائيلية بشأن "الحكم الذاتي الفلسطيني" في بعض أجزاء الضفة.
ومن خلال اتفاقية أوسلو الثانية في أيلول 1995، تم تفتيت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة "أ" حيث مُنحت المدن الفلسطينية الكبرى حكماً ذاتياً، والمنطقة "ب" حيث مُنحت القرى والبلدات الفلسطينية التي كانت تقع على تخوم المدن الكبرى، حكماً ذاتياً جزئياً، ثم المنطقة "ج" حيث الفلسطينيون أقلية تعدادها 200,000 ألف، وتشكل نحو ثلثي مساحة الضفة، وبقيت تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
سمح هذا التقطيع لإسرائيل بأن تزيد بمقدار ثلاثة أضعاف أعداد سكان المستوطنات في الضفة. وقد سعت لإنشاء مستوطنات غير قابلة للتفكيك مستقبلاً، وبالتالي فرض وقائع ديموغرافية على الأرض، بطريقة لا يمكن الرجوع عنها، ما يعني منع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ومن وجهة النظر الاسرائيلية، فإن مفهوم الحكم الذاتي الفلسطيني، كان يرمي إلى حل مشكلة إسرائيل الديموغرافية، إي إبعاد مراكز السكان الكبرى الفلسطينية عن الدولة اليهودية. واليوم نجد أن معظم الفلسطينيين في الضفة محصورا داخل المنطقتين "أ" و "ب" اللتين تحكمهما السلطة الفلسطينية بصورة جزئية، وهي سلطة لا يمكنها أن تمارس مهماتها إلا من خلال التنسيق مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية.
أمّا القدس الشرقية فقد تم ضمها إلى إسرائيل بصورة رسمية من جانب واحد، لكن وفي السنوات الأخيرة، فإن معظم سياسات إسرائيل الاستيطانية كان يركز على التغلغل إلى داخل الأحياء الفلسطينية وتفتيتها، ثم تقليص الديموغرافيا الفلسطينية.
(4)
أما بالنسبة إلى غزة فقد فشلت محاولة نقل اللاجئين منها إلى شمال سيناء خلال الستينيات والسبعينيات، وفي سنة 2005 انسحبت إسرائيل منها وهذا يعني استناداً إلى عقيدة "المساحة الأكبر من الأرض والعدد الأقل من العرب"، خسارة جزء صغير جداً من الأرض في مقابل التخلص من عدد كبير من الفلسطينيين، ثم فرض حصار خانق على غزة، وهو الحصار الذي كان من العوامل التي أدت الى هجمات "حماس" في 7 تشرين الأول 2023.
في ذلك الحين(أي في سنة 2005) وافقت أغلبية الإسرائيليين على خطة الانسحاب. أمّا اليوم وبعد هذه الحرب العدوانية فإننا نجد بعض الأصوات داخل الحكومة تطالب باحتلال إسرائيلي دائم لأجزاء من القطاع، بعد أن يجري إفراغها من سكانها الفلسطينيين.
(5)
وبعد انهيار عملية أوسلو في أعقاب الانتفاضة الثانية، ومع غياب أية عملية سياسية خلال العقدين المنصرمين، وما واكب ذلك من تهميش للسلطة الفلسطينية في الضفة من جانب حكومات إسرائيلية متعاقبة، فإن مفاهيم "الترانسفير" قد تم الترويج لها مجدداً من طرف دوائر رسمية وشبه رسمية. وعلى الرغم من أن زعماء اليمين المتطرف في حكومة الائتلاف الحالية هم الذين يرفعون الصوت عالياً بشأن هذا السيناريو، فإن الجدل الحالي في إسرائيل فيما يخص "نقل" الفلسطينيين إلى خارج الأراضي المحتلة هو مطلب ينادي به علناً المسؤولون الإسرائيليون.
إن الحرب التي تشنها اسرائيل حالياً على غزة والدمار الهائل لمعظم البنى التحتية المدنية في القطاع، وعملية "الإزاحة الداخلية" لنحو ثلثي السكان، سيكون له تأثير عميق على فلسطينيي القطاع والضفة. وقد تعاظمت الدعوات الصادرة عن دوائر رسمية في إسرائيل إلى طرد الفلسطينيين بصورة جماعية من منازلهم في الضفة والقطاع منذ بداية الحرب على غزة قبل أكثر من شهرين.
بالإضافة إلى ذلك فمن الخطأ اعتبار مفهوم "الترانسفير" الصهيوني ينطبق فقط على إزاحة الفلسطينيين المنتظمة من فلسطين إلى دول عربية مجاورة. وفي حقيقة الأمر فإن ربع عدد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر(أي نحو نصف مليون نسمة)هم من "اللاجئين الداخليين" الذين استولى المستوطنون اليهود على أراضيهم وقراهم. من هنا فإن مفهوم "الترانسفير" الصهيوني يشير تاريخياً إلى "الإزاحة الداخلية" للفلسطينيين داخل فلسطين الانتدابية (والكيان الصهيوني لاحقا)، كما يشير إلى طرد الفلسطينيين إلى الخارج كما جرى خلال حربي 1948، و1967. وهذا المفهوم لـ "الترانسفير الداخلي والخارجي" له دلالات خطرة في شأن ما يجري الآن في الضفة.
فبينما تتابع إسرائيل حربها على غزة، فإن المستوطنين في الضفة قد فتحوا "جبهة ثانية"، وهي حرب صامتة ضد فلسطينيي الضفة يتخللها عنف يومي وتهديدات بالطرد. ومع التركيز الدولي الحالي على الحرب في غزة فإن المستوطنين بمساندة الجيش في الضفة، استغلوا الفرصة وصعّدوا حملتهم الرامية إلى إعادة رسم خريطة الضفة وتهديد المجتمعات الفلسطينية المكشوفة وطردها. وهم يحاولون بصورة خاصة طرد الفلسطينيين من ما وصفته اتفاقيات أوسلو بالمنطقة "ج"، أي المنطقة الريفية في الضفة، وأن يحصروا الفلسطينيين في بؤر داخل المنطقة "أ" التي تشمل مراكز المدن في الضفة. وإذا نجح المستوطنون في حملتهم هذه، فسيمثل ذلك أكبر حملة لـ "الترانسفير الداخلي"، والطرد منذ عقود.
(6)
ماذا عن "الترانسفير الخارجي" من الضفة إلى الأردن؟
تتطابق أهداف حكومة الاحتلال حاليا تماماً مع أهداف المستوطنين في الضفة، كما أن التهجير الجماعي من الضفة هو أيضاً خيارهم المفضّل. لكن ثمة بعض العقبات التي تعترض طريق هذا السيناريو حاليا:
رفض الحكومة الأردنية القاطع لأي محاولة اسرائيلية للتهجير من الضفة، فالشعب والحكومة والجيش الأردني سيقاومون مثل تلك المحاولات. وفي أواخر تشرين الثاني 2023 عزز الأردن جيشه على نهر الأردن وعلى الحدود مع فلسطين، وتم إطلاق التحذيرات بأن أية محاولة لطرد الفلسطينيين بالقوة عبر النهر من شأنها أن تهدد اتفاقية وادي عربة الموقعة سنة 1994.
إن الفلسطينيين لديهم إجمالاً حساسية بالغة تجاه هذا الأمر، وهم يعلمون أن إزاحتهم بالقوة وبصورة جماعية بمثابة نكبة أُخرى، وسيقاومون أية محاولات إسرائيلية في هذا الاتجاه.
لا يبدو - في هذه المرحلة على الأقل - أن داعمي اسرائيل وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية الحالية لهم مصلحة في توسيع الحرب على غزة كي تصل إلى الضفة الغربية، لخلق" وقائع جديدة على الأرض، ولا مصلحة لهم أيضاً في مجابهة أوسع نطاقاً مع العالمين العربي والإسلامي.
(7)
وتروّج اسرائيل لفكرة "دفع" سكان غزة نحو شمال سيناء، و"إعادة الإسكان" للاجئي غزة في شمال سيناء، وهي فكرة ذات جذور تاريخية تصل الى خطة ألون في الفترة التي تلت سنة 1967، والتي لم تحظ في حينه بأي نجاح سياسي. وقد رفضت الحكومة المصرية هذه الفكرة بشدة.
وتقترح اسرائيل من جديد دفع سكان غزة نحو الانتقال إلى مخيمات في شمالي سيناء، ثم بناء مدن دائمة مع وجود "ممرّ إنساني"، وإقامة "منطقة أمنية" إسرائيلية داخل غزة تكون بمثابة حاجز يمنع الفلسطينيين المهجّرين من العودة إلى القطاع. وتتحدث التقارير عن دور لكل من مصر والسعودية والإمارات وتركيا وقطر وكندا في تقديم العون المادي لهذا المشروع، واستقبال فلسطيني غزة كلاجئين، ومن ثم ضم أجزاء من هذا القطاع إلى إسرائيل، وإنشاء مستوطنات يهودية داخله.
أمّا بالنسبة إلى مصر فإنها لطالما كانت تخشى رغبة إسرائيل في اقتلاع سكان غزة، والدفع بهم إليها، وأوضحت أنها ستقاوم أية محاولة لدفع اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيها.
إذن ثمة رفض فلسطيني وعربي ودولي للتهجير القسري، لكن الخطر يبقى قائماً ما دامت دولة الاحتلال تستمر في تدمير مقومات البقاء لأجزاء أساسية وحيوية من قطاع غزة، بالإضافة إلى عزمها اقتطاع شريط أمني من أراضي القطاع لصالح سكان الغلاف الإسرائيليين، كما أن استمرار الحرب والتهجير الداخلي يبقيان على خطر التهجير إلى خارج القطاع مطروحاً.
إن وقف العدوان ودعم شروط بقاء الشعب الفلسطيني في غزة بمستوى يتجاوز شاحنات التموين والدواء والوقود، والتي هي أقل من الحد الأدنى، يشكل الدعم الحقيقي لشعب منكوب ومهدد، وهو الضمانة الأساسية لإفشال حرب الإبادة وأهدافها، وأولها تهجير المواطنين خارج بلدهم.