في الإجابة على سؤال ماذا أستطيع أن أفعل من أجل غزّة؟!
مبدئيا يستطيع كلّ منّا أن يفعل الكثير طالما أنّه لا يبحث عن إجابات سهلة وجاهزة ومعلّبة، أو لا يبحث عن أشخاص يعصب هذه الإجابات برأسهم ليعفي نفسه من مشقّة التفكير وتحمّل المسؤولية!
هناك مثلا المواظبة على مقاطعة ماركات الشركات ومنتجات الدول التي تدعم الكيان الصهيوني.
وهناك مثلا الاستمرار بالتعبير عن الرفض لحرب الإبادة والتهجير التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والمطالبة بقطع أي علاقات وارتباطات معه ومع حلفائه وداعميه، سواء عبر (السوشال ميديا)، أو من خلال المشاركة في المظاهرات والمسيرات والفعاليات التي يتم تنظيمها لهذه الغاية.
وهناك الإضراب العام الذي تمّت الدعوة إليه في جميع أنحاء العالم يوم الاثنين للضغط على ساسة وحكومات العالم من أجل الوقف الفوري لإطلاق النار في غزّة.
جميع هذه الأمور لا تبدو لك كافية؟ ولا تشفي غليلك؟ وتشعر أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر في التخفيف من معاناة أهلنا في غزّة وفلسطين والمخططات التي تحاك ضدّهم؟
حسنا، كلامكَ لا يخلو من وجاهة، ولكن المشكلة الأساسية هنا أنّ غالبيتنا يطرحون السؤال الخطأ!
فقبل أن نسأل "ماذا نستطيع أن نفعل من أجل غزّة؟" هناك عدد من الأسئلة التي ينبغي على كلّ مرء أن يجيبها بينه وبين نفسه قبل أن يصل إلى هذا السؤال؟
أولا لماذا ينبغي عليّ أن أفعل شيئا من أجل أهل غزّة وفلسطين؟
هل بدافع الفزعة والغيرة والحميّة؟
لقد أثبتت التجربة العملية أنّ الفزعة والغيرة والحميّة لا يعوّل عليها، وما لم يُقدِم المرء عل فعل شيء لحظتها وفي "عزّ حماوتها"، فإنّ فزعته وغيرته وحميّته سرعان ما ستبرد وتفتر وتخبو مع مرور الوقت.
بل إنّ الذين تحرّكهم الفزعة والغيرة والحميّة سرعان ما يعتريهم التعوّد والملل والقنوط، ويصبحون في قرارة أنفسهم يتمنون أن ينتهي كلّ شيء ليعودوا إلى روتين حياتهم المعتاد.
إذا لم تكن الفزعة والغيرة والحميّة فماذا إذن، الوازع الإنساني؟
ها نحن نرى بأمّ أعيننا جماعة الوازع الإنساني بمناشداتهم ومطالباتهم وبياناتهم وعواصفهم الإلكترونية الموجّهة باسم حقوق الإنسان والشرعية الدولية إلى المنظمات والدول والقوى التي هي نفسها طرف في الصراع، وشريكة في دعم جرائم الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، أو تبريرها، أو السكوت عنها!
أم أنّ الدافع للقيام بشيء من أجل غزّة وفلسطين هو الوازع الإيماني؟
إذا كانت المسألة مسألة وازع إيماني حقاً فإن "الحِسبة" كلّها ستختلف!
من منظور الوازع الإيماني تسقط مباشرة فكرة الجدوى والتأثير؛ فأنتَ إيمانيّاً مطالب بالقيام بما ينبغي عليك القيام به بغض النظر عن مدى اقتناعك بجدوى هذا الفعل ومدى تأثيره.
أنتَ تقاطع لأنّه مطلوب منك أن تقاطع، ولأنّ الصواب أن تقاطع، بغض النظر اقتنعت بجدوى المقاطعة أم لم تقتنع، وسواء حققت المقاطعة نتائج ملموسة أم لم تحقق.. وعلى ذلك قِس بقية الأفعال الأخرى.
إيمانيّاً أيّ فعل مطلوب هو مطلوب في حدّ ذاته بغض النظر عن نتائجه، بكون القيام بالفعل هو تعبير عن الامتثال والطاعة، وتعبير أيضا عن "الأخذ بالأسباب" واستنفاد الوسع في سبيل ذلك.
وإيمانيّاً مسؤولية المرء تجاه أيّ فعل مطلوب هي مسؤولية فردية، بمعنى أنتَ مُلزم بالقيام بما ينبغي عليك القيام به، ولا يعنيك التزم الآخرون أم لم يلتزموا، وعدم التزامهم، وهنا بيت القصيد، ليس عذرا مقبولا يبرر لك امتناعك أو تقاعسك أنت أيضا عن القيام بما ينبغي عليك القيام به.
وإيمانيّاً أيضا أيّ فعل مطلوب لذاته هو مقرون بالثقة بالله، بمعنى أنا أفعل الفعل من أجل الفعل امتثالا وطاعة، ولكن في قرارة نفسي لدي قناعة راسخة أنّ الله تعالى لن يخيّب ظنّي ويفشل مسعاي، سواء عجّل لي ذلك في الدنيا، أو ادّخره لي في الآخرة.
وإيمانيًّا نحن نفعل ما ينبغي علينا فعله لندفع عن أنفسنا المسؤولية أولا، وللاستزادة من الخير ثانيا.. وفي كلّ أجر وثواب.
بعد سؤال لماذا أفعل؟ يأتي سؤال هل من مسؤوليتي أن أفعل؟
بمعنى، هل الفعل المطلوب يقع ضمن نطاق سلطتي وصلاحيتي وإرادتي الحرّة المباشرة أم لا؟
على سبيل المثال، لن يسألك الله تعالى لماذا لم تعلن الحرب على الكيان الصهيوني لأنّ ذلك ليس من صلاحياتك ولا يندرج تحت نطاق مسؤوليتك، بل سيسأل عنه من يمتلك مباشرة صلاحية اتخاذ مثل هذا القرار.
وفي المقابل، قد يسألك الله تعالى مثلا لماذا لم تستقل من وظيفة تلزمك بالتعامل مع الكيان الصهيوني؟ أو العمل لدى شركة تدعم الكيان الصهيوني؟ أو مع منظمة تتبنى موقفا مؤيدا ومدافعا عن الكيان الصهيوني؟ باعتبار أنّ ذلك كلّه يندرج تحت سلطة اختيارك وقرارك وإرادتك الحرّة.
وبعد سؤالي لماذا أفعل؟ وهل مسؤوليتي أن أفعل؟ يأتي سؤال هل أستطيع أن أفعل؟
فالمبدأ الثابت هو "لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها"، ومقدار الوسع الحقيقي والاستطاعة الحقيقية لكل شخص سرّ لا يعلمه إلا الشخص نفسه والله تعالى.
وللأسف، فإنّنا نتعامل مع مسألة الوسع والاستطاعة كـ "المطّاطة"، نمطّها كما نشاء ونصغّرها كما نشاء تبعا لرغباتنا وأهوائنا وتفضيلاتنا وقراراتنا المسبقة.
وغالبيتنا نتحجج بعدم القدرة والاستطاعة، ونهوّل ونبالغ في تصوير ذلك.. في حين أنّنا في حقيقة الأمر لا نريد أن نتحمّل أدنى مشقّة أو ندفع أبسط الأثمان في سبيل ما ندّعي أنّنا نؤمن به ونريده.
كلّنا نريد أن يتوقف القتل والدمار في غزّة، وأن يُهزم الكيان الصهيوني، وأن تتحرر فلسطين.. دون أن ندفع أثمانا شخصية، ودون أن تتأثر مصالحنا ومكاسبنا وأرباحنا ووظائفنا ورواتبنا وتقاعدنا ورفاهيتنا ونمط حياتنا ومستوى معيشتنا وروتيننا اليومي وعادات نومنا وصحونا وأكلنا وشربنا وتسليتنا وترفيهنا.. الخ، وهذا ببساطة مستحيل!
وأخيرا يأتي سؤال الإخلاص، هل أنا أفعل ما أفعله من أجل الله تعالى؟ ولأنّي مقتنع تماما أنّه عين ما يريده الله مني؟ وما يرضيه؟ وما يدفع غضبه وسخطه وعقابه؟
وجزء من سؤال الإخلاص أن يكون المرء مقتنعا أنّه لا يترك شيئاً لله إلا وعوّضه الله خيراً منه.
ويُلاحَظ هنا أنّ غالبية الأفعال المطلوبة منّا حاليا من أجل نصرة غزّة هي من حيث المبدأ أفعال امتناع وليست أفعال إتيان!
فمثلا هناك المقاطعة، أي الامتناع عن شراء ماركات ومنتجات معينة، ومحاولة الامتناع عن نمط الحياة الاستهلاكي برمّته..
وهناك الامتناع عن طاعة المخلوق في معصية الخالق ولو بحكم "الوظيفة" أو باسم "تنفيذ الأوامر"..
وهناك التعاون على "البرّ والتقوى" وعدم التعاون على "الإثم والعدوان"..
وهناك عدم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.. ومثل ذلك الكثير!
ومتى ما أجاب الإنسان على أسئلة "النيّة" و"المسؤولية" و"الاستطاعة" و"الإخلاص"، فإنّ الإجابة على سؤال "ماذا أستطيع أن أفعل؟" تصبح سهلة وفي متناول الجميع، وكلّ شخص يستطيع أن يخرج لنفسه بقائمة لما يستطيع القيام به كلٌّ حسب موقعه وإمكاناته ومقوّماته وظرفه الخاص.
سواء الثري الذي يتخذ قراره مثلا بسحب كامل ثروته من البنوك من أجل الله تعالى، بكون البنوك هي جزء من منظومة المال والأعمال والمصالح التي تتسبب بكل هذه الصراعات والحروب والدمار في العالم..
أو الفقير الذي لا يجد سبيلا سوى الصيام، وتناول الكفاف على الفطور والسحور من أجل التعبير عن تضامنه مع معاناة الأهل في غزّة وفلسطين، والدعاء لهم آناء الليل وأطراف النهار.
ويبقى هنا التذكير بأربع مسائل جوهرية:
المسألة الأولى كما تتبدّى في الحديث المأثور "مَن رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
والعبرة هنا، إذا كنتَ تدّعي أنّك من جماعة "أضعف الإيمان"، فمصداق ذلك أن لا تنكر على أصحاب "اللسان" و"اليد" سلوكهم.
بمعنى، إذا كنتَ عاجزا عن المقاطعة مثلا، أو الاستقالة من عملك، أو عدم إطاعة أمر يغضب الله.. فابقَ صامتا، ولا تنكر على من يدعو إلى ذلك بلسانه، أو يُقدم عليه بنفسه، فقط لكي تنافق نفسك وتلتمس لها الأعذار!
بكلمات أخرى، إذا كنتَ لا تستطيع أن تفعل أو تقول شيئا من أجل غزة وفلسطين والمقاومة، فعلى الأقل "كافيهم شرّك"!
المسألة الثانية هي ضرورة أن تضع في اعتبارك أنّ العدو لا يبالي بالبشر، ولا يؤلمه البشر، ولا يقيم وزنا للبشر، لا خصومه، ولا حتى أبناء جلدته الذين ينتسبون إليه.
هذا العدو وأعوانه لا يفهمون سوى لغة النقود والنفوذ والمصالح و"البزنس"، ولا يؤلمهم شيء إلا ما يمسّ نقودهم ونفوذهم ومصالحهم وبزنسهم!
المسألة الثالثة أنّ أي فعل يقوم على "الفتنة" أو يؤدي إلى "الفتنة" مرفوض، بكون الفتنة أدعى للترك والاجتناب بكونها "أكبر من القتل" و"أشدّ من القتل"، وبكون العدو هو المستفيد الأول والأخير من الفوضى التي يمكن أن تتسبب بها الفتن والقلاقل.
والمسألة الرابعة هي أنّه من أصعب الصعوبات التي يواجهها صاحب الوازع الإيماني والأخلاقي الصادق أنّه لا يستطيع الانحطاط إلى مستوى الأفعال والسلوكيات والجرائم التي يقترفها عدوّه حتى لو من قبيل "المعاملة بالمثل"، وهذا جزء من كون "جهاد النفس" هو أصعب مراتب الجهاد!
بقيت هناك مسألة أخيرة أخطر من جميع ما تقدّم، وهي أن كلّ شخص بصورة من الصور هو الذي يحدّد لنفسه المعايير التي سيحاسبه الله تعالى بناء عليها.
بمعنى، إذا اقتنعتَ أنّ عليك القيام بفعل معيّن، واستنفدت صادقا أسئلة "النية" و"المسؤولية" و"الاستطاعة" و"الإخلاص" تجاه هذا الفعل، واستقرّ يقينك أنّ هذا الفعل لا ينضوي على مخالفة لأوامر الله وشرعه، ولا يندرج تحت "الأذى" و"العدوان" و"الفتنة"، أصبح لزاما عليك القيام بهذا الفعل، وسيحاسبك الله تعالى هل قمت بهذا الفعل أم لم تفعل.. في حين أنّه لن يحاسب الآخرين بالضرورة على عدم قيامهم بنفس الفعل طالما أنّه لم يستقر في يقينهم وإخلاصهم لزوم القيام به!
خلاصة القول، سؤال "ماذا أستطيع أن أفعل من أجل غزّة؟" قد يكون سهلا أو صعبا تبعا للشخص الذي يطرحه؛ سهلا على الذي يطرح هذا السؤال بصدق وإخلاص، وصعبا على الذي يطرح هذا السؤال من باب التلكّك والجدل واللغط ونفاق النفس والتماس الأعذار لها!