الانتقال من التنظير لحالة الضعف إلى دعم نظرية القوة والصمود
كم تمنينا أن تكون كلمات مجرم الحرب بنيامين نتنياهو مجرد خرافات صادرة عن اللوثة التي يعيشها الخيال الصهيوني، حين لخص موقف النظام العربي من حرب إبادته لغزة بقوله: "أصدقاؤنا في الدول العربية والعالم يعرفون أننا إن لم ننتصر سيأتي دورهم. "..
لكنها ليست كذلك، بل هي الحقيقة التي يئن خيالنا السياسي تحت وطأتها على الأرض يومياً، ونحن نشاهد شلال الدم الفلسطيني ينساب غزيراً حارّا بتوقيع الحليف الاستراتيجي الأمريكي الذي يتقن اللغة والمعايير المزدوجة، فيطلق تصريحات التضليل لوقف الإبادة الجماعية لشعب غزة المرابط على أرضه، بينما هو يقوم بحقن الكيان الصهيوني بكل إبر التثبيت لمنع إجهاض مشروعه الدموي الاحلالي.
هي حقيقة لا مستور فيها، ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد دأب رموز الكيان الصهيوني على توجيه الصفعة تلو الأخرى للنظام العربي والإسلامي الذي لا يكتفي فقط، بإغلاق بصره وبصيرته عن هدف العدو المعلن، والذي يخوض حربه الإجرامية لتصفية القضية الفلسطينية، بل تستمر المواقف المخجلة للنظام العربي والتي لا يمكن تصنيفها، إلا في خانات التبعية والإنكسار.
كم من البراعم في غزة يجب أن تغتال ليتحرك هذا الدم العربي الذي امتهن الإنحناء والامتثال إزاء ما يحدث من قتل وتدمير وتهجير بحق شعب اغْتُصبَت أرضه، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية التي منحت نفسها حق تقرير مصير الشعوب بعيدا عن إرادتهم، دولة تلبس ثوب الديموقراطية المقلوب، وتدعي أنها مركز الأخلاقيات في العالم، بينما تسعى لحل مشكلات طفلها الخديج، على حساب كينونة وأمن الفلسطينيين وأمن الدول العربية المجاورة، بما فيها الوطن الأردني، باستخدامها سياسة العصا حينا، والجزرة حينا آخر .
كل ذي بصيرة يعي أن حرب الإبادة الشاملة، التي ينفذها الاحتلال، بحق المدنيين ألآمنين في غزة، بغطاء سياسي، من القوى الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا، تؤكد أن عناء العمل طوال عقود لصناعة سلام شامل وعادل، كما يحلو لعرب الاعتدال أن يتنطعوا به وتسويقه، يصبح مجرد كلام كاذب، في ظل حقيقة السياسة البربرية التوسعية للكيان الصهيوني، لينحصر دور جماعة الاعتدال بأن يَشهدون على مباحثات واتفاقيات ما جاءت إلا لذر الرماد بالأعين العربية.
وطنيا، شئنا أم أبينا، استفزت حالة الخذلان العربي الرسمي، روح الأردنيين الوطنية، لينعكس ذلك على وعيهم الجمعي، خوفا على مصيرهم ومستقبلهم، لا سيما (فئة الشباب) الذين لهم مشاعرهم المرتبطة بشكل عضوي بالواقع الفلسطيني، الذي لا يمكن تجزئته ولا القفز عنه، لمواجهة المخطّطات الصهيونية، التي تتجاوز مصير غزّة المنكوبة، إلى مصير أمة ستصبح كلها مستباحة، إذا ما بقيت حالتا الخضوع والتعبية هما العنوان .
ليس من المبالغة في شيء القول: إن الأردنيين يرون بغير لَبس، أن ( 7 أكتوبر) أعاد فرض حقيقة - وإن حاول كل ذي مصلحة إنكارها - وإن لا شيء يعمل على حماية وتحصين المستقبل، ووأد أحلام الكيان الصهيوني بإقامة دولته المزعومة، فلم يبقَ لنا، موضوعيا، سوى التمسك بالمقاومة خياراً استراتيجياً ضد الكيان المحمول على أكتاف الرعاة الرسميين لحرب الإبادة، وذلك يمتد من رئيس غربي مأزوم، حتى أي عربي مستصغرا لشأنه.
ما يثير القلق، أن الشباب وحتى السياسيين من قادة رأي وأحزاب، يَبدون أكثر وعيا لهذا المستقبل، حيث يقلقهم تباين المساحة بين الخطاب الرسمي، الذي تحدث عن (التهجير كإعلان حرب) وبين السلوك - ولا أعني الإجراءات الواجبة التي يتخذها الأردن تجاه الأشقاء في غزة وفلسطين عامة، فهذه رواسخ متجذرة لوحدة الدم والمصير- وإنما متلازمة أخرى تستدعي توسيع حدقة العين لرؤية الخطر القادم، فبقاء المؤسسات الأردنية في حالة ترقب لما ستؤول إليه الأمور حالة لا تخدم سيادة ومصلحة الدولة الأردنية.
وما يغيب عن وعي النخب، وغالبية صناع القرار، أن الأردن اليوم لا يعيش في بحبوحة من الوقت والقرار، ما يستدعي تغييراً لا تدويراً في نوعية النخب، ومن هم على رأس المشهد في مفاصل حيوية، والإعلام ليس استثناء لبناء حالة وطنية صلبة، تستطيع صناعة تآلف حقيقي وصلب بين الخطاب والسلوك والوعي الشعبي لحماية الوطن .
على العين الفاحصة، أن ترى أن ماكنات العقل الصهيونية، التي تعمل بكل قوتها، حتى لو تطلب الأمر منها صب الزيت على عظام جنودها وأسراها، لإتمام تهجير سكان غزة، معتمدة على البيئة الصهيونية المتطرفة لإجراء عملية ترانسفير سريعة اتجاه الأردن مستخدمة مختلف الوسائل، بما فيها فرض سياسة الأمر الواقع والدعم الغربي- الأمريكي، وذيولهما من العرب الطامحين بدور على حساب العروبة ، وشلال الدم الشقيق.
لا ننكر أن المستويات الرسمية لدينا أعطت مساحات للتعبير، لكنا لا نريدها أن تبقى مساحات مسيجة بفكرة الخوف من الالتحام الشعبي الكامل مع المقاومة، فتتم محاصرتها بإجراءات لا مكان لذكرها الآن، لكنها تندرج جميعا في أطر محاولة الحد من هذا الاندفاع بمحاسبة من يطالبون بدعم المقاومة بكل المتاح، إذ يجب أن لا ننسى أن التعبير حق مشروع وأصيل للأردنيين، خصوصا في ضوء التهديد الصهيوني المشترك للوجود.
وعلى من يتحضرون للعودة إلى قمرة القيادة في المرحلة المقبلة، أن يتوقفوا عن دعوتهم لتخفيض سقف التوقعات، سعيا منهم لإطفاء شعلة الروح الوطنية المقاومة، فليس قدر الأمة والشعوب العربية بما فيهم الأردنيون أن يبقى وعيهم محشوراً في إطار التكيف مع الضعف والاعتماد على الخارج بدل الاعتماد على الذات.
فالحق، أن قتل روح المقاومة والاعتماد على النفس لدى الجيل الجديد جريرة لا تغتفر، بعد أن أوقد طوفان الأقصى، وصمود المقاومة في غزة والأراضي المحتلة، روح الجهاد والتحرر.
الضرورة الوطنية تقول: علينا الانتقال من التنظير لحالة الضعف إلى دعم نظرية القوة والصمود ودفن كل نظرية يروجها كل مستفيد متصهين من هذا الواقع، والذين يروجون لفكرة أن الأردن لا حول ولا قوة له إلا بالحد الذي يسمح له به ما يسمى الحليف الأمريكي، ما هم إلا طوابير منتفع .