من بريطانيا إلى إسرائيل.. هكذا هدم المحتلون مباني غزة وآثارها
على مدار تاريخها، نالت غزة عدة ألقاب أبرزها "حمراء اليمن" و"غزة هاشم" كما يذكرها التعبير العربي القديم، و"سيدة البحور" كما يصفها التعبير اليوناني والروماني، وفي وصف الرحالة العرب هي أول الشام من جهة مصر، وهي بوابة آسيا ومدخل أفريقيا كما قال نابليون، كما وصفها جورج آدم سميث بأنها "ميدان تطاحن الأمم" (1).
كانت المدينة بوابة أفريقيا للغزاة القادمين من آسيا، وطريق المتنقلين بين العراق وسوريا، ووادي النيل وأهم المدن على ساحل البحر المتوسط، وبسبب هذا الموقع شهدت غزة حقبا من الازدهار والإعمار، كما تعرضت مرارا للنهب والدمار.
وبينما تجد ذكر مدينة غزة في أقدم المصادر التاريخية، فإن المباني التاريخية فيها لا تعكس ذلك القِدم بالقدر ذاته، فهي قليلة ومتناثرة، مثل الجامع العمري وقصر الباشا وسوق القيسارية وبعض المنازل والمساجد والكنائس التاريخية، ذلك أن مشاهد الهدم في المدينة تكررت عبر تاريخها عدة مرات وتغير معه طابع العمران (2).
الحرب العالمية الأولى.. التدمير الأكبر
أطلال غزة والمسجد العمري الشهير وسط مدينة غزة زمن الحرب العالمية الأولى (مكتبة الكونغرس)
أطلال غزة والمسجد العمري الشهير وسط مدينة غزة زمن الحرب العالمية الأولى (مكتبة الكونغرس)
عسكريا، كانت غزة محطة مهمة على طريق الجيوش القادمة من الشام إلى مصر والعكس، إذ استقرت في المدينة للتموين والتأهب للحرب. كان ذلك خلال عصر المماليك والحروب التي نشبت بين أمرائهم، وفي زمان العثمانيين حين شهدت معركة فاصلة بين السلطان المملوكي طومان باي والجيش العثماني سبقت معركة "الريدانية" الشهيرة.
حضرت غزة أيضا خلال سنوات الحملة الفرنسية، فحين اضطر نابليون للانسحاب من كل المدن الشامية دمر جيشه الكثير من التراث المعماري، ففقدت البلدة القديمة في غزة ما تبقى من أسوارها، وعددا من المساجد التاريخية مثل جامع البيمارستان ومدرسة قايتباي والمدرسة الكمالية.
وخلال القرن العشرين وحده، شهدت المدينة تغيرات جوهرية غيَّرت وجهها العمراني، إثر الدمار الواسع الذي تعرضت له على يد الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1917، كانت غزة ميدانا لمعركة حامية بين الجيش البريطاني والجيش العثماني. في البداية، كان النصر حليف العثمانيين، ثم تغيرت وقائع المعركة بوصول المزيد من الذخائر والمدافع والعتاد للإنجليز، فأصدر الجيش العثماني أوامره إلى أهل غزة بإخلاء المدينة، فرحلوا إلى القرى المجاورة، وانطلقت المدافع الإنجليزية تدمر المدينة الخالية من أهلها (3).
لدى عودتهم فوجئ أهل المدينة بتحوُّلها إلى خراب، إذ دُمر ما يقرب من نصف مبانيها، فضلا عن تأثُّر ما بقي منها بسبب محاولات الجيش العثماني استخدام الأبواب الخشبية والأثاث والسقوف لتشديد التحصينات، وهكذا اختفى عدد كبير من المباني التاريخية التقليدية فيها، كما تقلصت مساحة البلدة القديمة (4).
كان أبرز المباني الأثرية التي دمرتها الحرب مسجد الشيخ منصور ومسجد كاتب ولاية في حي الزيتون، كما دُمرت مئذنة المسجد العمري الكبير بالكامل وكذلك الرواق الشرقي من صحن الجامع، بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من السقف وبعض الأعمدة (رُمِّمت كل تلك الأجزاء وأُعيد بناء الجامع العمري الكبير لاحقا) (5).
مطالبات بالتعويض
بعد انتهاء الحرب، وخلال الفترة التي سبقت النكبة عام 1948، نشرت الصحف الفلسطينية أخبارا عن مطالبات سكان غزة بالتعويض نظير الدمار الذي لحق بممتلكاتهم. على سبيل المثال، نشرت صحيفة اليرموك في أكتوبر/تشرين الأول عام 1925 عن مطالبة رئيس بلدية غزة عمر الصوراني المندوب السامي البريطاني خلال الفترة بين عامي 1925-1928 هربرت بلومر بإعمار غزة، ووصف له كيف يعاني أهلها لإعمار ما خربته الحرب من بيوت وأراضٍ زراعية، ونشرت أيضا عن وعد بلومر له بالمساعدة.
وفي مارس/آذار عام 1932، نشرت صحيفة "مرآة الشرق" خبرا عن مطالبة رئيس بلدية غزة فهمي الحسيني المندوب السامي حينها آرثر غرينفيل وايكهوب بإعمار المدينة أيضا التي صارت خلال الحرب العالمية الأولى "ساحة حربية للجيوش المتقاتلة"، وذكر الحسيني في مطالبته معاناة أهل غزة الذين أُجبروا على الهجرة من مدينتهم، وعادوا إليها ليجدوها "خرابا"، وأكد أن التعامل مع المدينة كان سيختلف لو كانت مدينة أوروبية دمرتها الحرب (6) (7).
البناء المهدم يحمل قيما اجتماعية ونفسية وتاريخية، وهو يمتلئ بالمعاني تماما مثل البناء الأثري (رويترز)
بعد الدمار الكبير الذي خلَّفته الحرب العالمية الأولى، استبدلت مبانٍ خرسانية الكثير من المباني الأثرية في غزة، وخلال فترة الانتداب البريطاني بين عامي 1918-1948 هُدم المزيد من المباني الأثرية بحيث لم يعد لها أثر، بحجة شق الطرق وتوسيعها، مثل جامع الشيخ الأندلسي الذي هُدم لشق شارع فهمي بيك، وتعرضت المرافق والمؤسسات الدينية من مساجد وزوايا وتكايا وأسبلة للإهمال الشديد، ما أدى إلى انهيار بعضها وتحوُّلها إلى أماكن مهجورة عُرفت بـ"الخرائب".
وفي أعقاب نكبة عام 1948، وما صحبها من هجرة إلى غزة، ومع الحاجة إلى إيواء أعداد كبيرة من السكان، ظهرت مخيمات بُنيت دون تخطيط كان بعضها فوق مواقع أثرية (8). في غضون ذلك، كان الهدم إحدى السياسات التي اتبعتها سلطات الاحتلال لقمع العمل الفدائي في غزة، وقد ظهر ذلك أوضح ما يكون في حملة عام 1971، حين أصدر أرييل شارون -وكان قائدا للجبهة الجنوبية لجيش الاحتلال حينها- أوامره بالقتل المباشر لكل المشتبه بهم، وهدم مباني المدينة ومرافقها لتمكين قوات الاحتلال من التحرك بعرباتها العسكرية داخل المخيمات بسرعة (9).
استمرت سياسات الهدم خلال حروب إسرائيل على غزة في العقدين الأخيرين. ففي حرب عام 2008، تعرضت مبانٍ أثرية للتدمير الكلي مثل مبنى قصر الضيافة (10). ووفق وزارة الأشغال العامة في قطاع غزّة، فهناك نحو ألفَيْ حالة هدم كلي لم يُعَد إعمارها منذ عدوان عام 2008 حتى اليوم، وما يزيد على 90 ألف حالة هدم جزئي لم يتم إصلاحها بعد (11). يمكن القول إن المظهر الحالي للهيكل العمراني لمدينة غزة كان يمكن أن يكون مختلفا تماما دون هذه التأثيرات من الحروب والدمار، أضِف إلى ذلك الانفصال العميق بين مَن يخططون للمدينة ومَن يعيشون فيها، منذ حقبة حكم العثمانيين، ثم الانتداب البريطاني، وأخيرا الاحتلال الإسرائيلي، ما ألقى بظلاله على الطابع العمراني للمدينة (12).
العمران المقاوم
تخلق سياسة الهدم واقعا جديدا، وهي إحدى أدوات الاستعمار في فرض هيمنة رمزية على التاريخ، بما يعنيه من تجسيد للهوية والذاكرة. لكن للمفارقة، فإن تلك البنايات المهدومة والمهجورة تلعب دورا في خدمة المقاومة، حيث يستغلها المقاومون لممارسة التكتيكات العسكرية في الهجوم والانسحاب والقنص والمراقبة، نظرا لمعرفتهم المتأصلة بالمكان التي يفتقر إليها خصومهم.
ليس ذلك فحسب، فالبناء المهدم يحمل قيما اجتماعية ونفسية وتاريخية، وهو يمتلئ بالمعاني تماما مثل البناء الأثري (13)، وينطبق ذلك حتى على البيوت بالنسبة إلى أصحابها. لذلك، غالبا ما يثير الحديث عن إعادة إعمار المناطق التاريخية جدلا حول الاختيار بين إعادة بنائها لتبقى شاهدة، أم تركها مدمرة باعتبار ذلك شهادة أيضا على ما حدث. وبغض النظر عن هذا الجدل، من المؤكد أن فكرة إعادة الإعمار تحمل في طياتها روح المقاومة لدمار الحرب، وتحويل مأساتها إلى عملية تنموية للنهوض بالمجتمع وتجاوز المحنة، أما المباني التي كانت هنا منذ زمن، فإنها تبقى حية دائما في الذاكرة، وفي هذا نوع آخر من المقاومة ضد الزمان والنسيان (15).