الأغاني الشعبية الفلسطينية إذ تحكي تاريخ فلسطين وتقاوم مع رجالها

"نحن نرد القبح بالجمال، وهندام جملتنا رد على شعث خطاب القبيحين من أهل زماننا".

تميم البرغوثي

على مر تاريخه كان الشعب الفلسطيني يقاوم كل ما يمر بالوطن بهذا الجمال، أمام المعاناة كانت المرأة تطرز وتخبز وتغني، تقاوم بكل هذا وأكثر، والأغاني الشعبية الفلسطينية تحكي تاريخ فلسطين في حقب مختلفة، وتخبرنا عن الكثير مما عاناه أهلها، بحيث يمكنك أن تروي تاريخ فلسطين بمجموعة من الأغنيات الشعبية، التي ربما لا نعرف قائلها لكنها بقيت تتردد حتى اليوم، وتقاوم لتبقى حاضرة في الذاكرة.

 

الحصاد ورسائل الحب في ترويدة الخليل

في بداياتها كانت الأغاني الشعبية فنا تعبيريا رافق عمل الفلاح الفلسطيني في الزراعة وفي حياته اليومية، فحكت الأغنية عن موسم الحصاد وطقوسه وبهجته، وهو الذي كان يعني اقتراب الأعراس التي طال انتظارها، وبينما كان الرجال ينشدون في تجمعاتهم، كانت تجمعات النساء تغني للعروس ما عُرف بـ"الترويدة"؛ الغناء بطيء الإيقاع الذي يُتغنى به في الأعراس وليالي الحناء (1) (2).

على سبيل المثال، غنى الفلاحون في موسم الحصاد "منجلي يا منجلاه" للآلة الساحرة (المنجل) المستخدمة في الحصاد، وتتابع الأغنية قائلة: "رحت للصايغ جلاه" ليصبح أشبه بفرس يمتطيه الفلاح وهو يحصد تعب شهور ماضية. كانت أجواء الأغنية تعين هؤلاء العاملين بكدّ، وتبشرهم بحصاد مثمر يُمكِّنهم من تحمل تكاليف الحياة.

بصورة مماثلة، غنت الفتيات "يا مريم"، الترويدة التي ترددت في الأعراس عند توديع العروس لدار أهلها، ونقلت هذا المزيج بين مشاعر الحزن لوداع بيت الأهل والفرح بالانتقال إلى بيت الزوج. وكانت هناك مشاعر أخرى حاضرة مثل الحب والشوق تريد الفتيات البوح بها، لكن يمنعهن الحياء. لذا فإنهن لجأن إلى "التشفير" من خلال إضافة حرف اللام إلى الكلمة وتكراره بحيث تبدو غير مفهومة، وسُمي هذا النوع من الغناء بـ"المولالاة"، وأشهره ترويدة الخليل، أو "يا حلولبنا"، التي عبرت فيها امرأة فلسطينية عن حبها، حين تحذف حرف اللام ستصبح الكلمات مفهومة (يا حبنا) وسيمكن فهم ما تعنيه المرأة (3).

لا يصحب الغناء عادة آلة موسيقية، لكنه يحمل موسيقاه الخاصة التي تشكلها أصوات النساء حين يتغنين به، وبمرور الوقت، انتقلت الأغاني من المناسبات مثل استسقاء المطر ومواسم الحصاد والأفراح واستقبال المواليد إلى الثورة والمقاومة (4). مثلا، تخبرنا ترويدة "نجمة الصبح" عن حياة مشتركة انتقل فيها الأجداد بين حلب والشام وفلسطين، بحيث لم يعرف الشخص من أين هو على وجه التحديد: "يا هالعريس بلادك ما قريناها"، أي ما عرفناها، "يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها، وتفصلت بحلب واهتزت بالشام"، لم تدع السياسة تلك المشاعر على سجيتها، إذ تخبرنا الأغنية أن الشام أخذت أجمل الشباب: "يا نجمة الشام وين وين عليتي، الجواد أخذتي، والأنذال خليتي"، في إشارة إلى المقاومين الذين كانوا يبتعدون إلى الشام ريثما تتبدل الأحوال في فلسطين، ويمكنهم العودة ومواصلة المقاومة.

 

"السفر برلك".. التاريخ والحرب

في زمن الحرب العالمية الأولى، وحين أعلنت الدولة العثمانية المشاركة إلى جانب ألمانيا في الحرب على الحلفاء، فيما عُرف بأيام "السفر برلك"، كان التجنيد إجباريا، وراحت النساء يعانين من الفراق الذي يلوح بسفر الأحباب، وحكت أغانيهن عن تلك الفترة، وكيف أنهن لم يدخرن المال في محاولات إعفاء ذويهن من التجنيد.

تلخص أغنية "ع سفر برلك" الحكاية؛ فتخبرنا كيف ذهبت النسوة لرهن الذهب انتظارا لبيع المحصول ثم دفع المال في مقابل إعفاء الرجال، وكيف رأين في ذلك الحل الأمثل وتناصحن فيما بينهن به كما تقول الكلمات: "شو بتنفعك غوايش الذهب… والذهب عمره ما بضلّلّك".

تكمل أغنية أخرى الحكاية، فتخبرنا عن مصير هؤلاء الذين لم يمتلكوا ذهبا لبيعه؛ كان مشعل أحد الفتيان الذين لم يمكنهم دفع الأموال للحصول على الإعفاء، فصار مُطاردا أو "فراري"، يُمضي الأيام بين الجبال والكهوف، حتى ألقت السلطات العثمانية القبض عليه ذات مرة، ورغم محاولاته إغراء "الدركي" بدفع المال ليتركه وشأنه، فإن الرجل الذي تحدث إليه بـ"التركي" أخذ المال وقبض على الشاب، وسط بكاء النساء والأطفال.

تغني له حبيبته باكية فراقه، فتُبكي النساء والأطفال حولها، وهم الذين يعرفون حكاية الشاب، صار مشعل رمزا لآلاف الشباب الفلسطينيين الذين هجروا الأهل والأرض إلى حرب لم يعرفوا لها سببا، ولم يعد مشعل مثل الآلاف الذين لم يعودوا، وانفطر قلب الأهل والحبيبة في الانتظار (5).

 هكذا استدعت ظروف الحياة السياسية منذ العصر العثماني أن تدخل موضوعات أخرى إلى الغناء، واستُخدم تشفير الأغاني في "المولالاة" ليمكن تبادل الرسائل بعيدا عن أعين "الخواجات"، فكانت النساء يستخدمنه في نقل الرسائل السرية بين المقاومين في أماكن اختبائهم والأسرى في السجون والمعتقلات، وهكذا أمكن للمعتقلين التواصل مع المقاومين والثوار، كان هذا يحدث دون أن تفقد "المولالاة" جمالها، فتحفظ مضمون الرسالة وتُبقي في الوقت ذاته على إيقاع ونغم الكلام.

 

أغانٍ ثورية

في سنوات تالية، تحولت أغانٍ كانت في الأساس في حبّ الريف الفلسطيني لتكون أغاني ثورية مع الأحداث السياسية المتلاحقة قُبيل النكبة، كما حملت الأغاني التي طالما غنتها النساء في الأعراس حزنا اختلط بالفرح، لتُغنى منذ ذلك الحين في مناسبات مختلفة تماما (6).

ستشير أغنية "نجمة الصبح" في جملتها "يا هالعريس بلادك ما قريناها" إلى شهيد لا يعرف الناس البلدة التي يعود إليها، وحين تسمع إحداهن تغني: "سبل عيونه ومد إيده يحنوله.. غزال زغير بالمنديل يلفوله"، تكاد لا تعرف لمَن تغني المرأة، لعريس في فرحه أم لشهيد يزف إلى ربه، فكلاهما "عريس" في المفردات الفلسطينية التي احترفت مزج الحزن بالفرح، ومقاومة الموت.

بشكل مماثل، طوّع الفلسطينيون كلمات بعض الأغنيات بحيث تحمل الخطاب الثوري، مثلا أغنية "ظريف الطول" التي قيلت في مدح جمال الشاب وقوامه الممشوق، وتغنى بها الناس في الأعراس ورقص الشباب الدبكة على ألحانها، تحولت لتحمل معانيها مدحا للبطل الفلسطيني الثائر المقاوم، الذي ذهب ليشتري من ماله سلاحا يدافع به عن القرية ضد العصابات اليهودية، وصار لها عدة نسخ على الوزن الشعري نفسه تحمل معاني مختلفة (7).

أغنية "جفرا ويالربع" إرث شفهي آخر شهِد تحولا مماثلا، إذ كانت تُغنى في الأصل لتروي قصة حب شهدتها إحدى القرى، ثم تحولت لتسرد قصة الوطن والمقاومة، وتعكس التحول الاجتماعي والثقافي الذي شهدته فلسطين، فتسجل هموم الوطن وأفراحه، تعني "جفرا" أنثى الغزال، وقد تحول التشبيه من رمز للمرأة فائقة الجمال إلى رمز للوطن مع حلول النكبة (8).

ومثلما كانت الأغاني تمد الفلسطينيين بالحماس عند زراعة الأرض والحصاد وفي أعمالهم اليومية، فإنها لعبت الدور ذاته في المقاومة، فكانت الأغاني الشعبية تسرّي عن المقاومين وتصاحبهم في صباحات قتال العدو، وفي ليالي السمر، وحين يُسجنون وحتى حين يحملون الشهداء على أكتافهم (9).

 

المقاومة الشفهية

يحكي غسان كنفاني في كتاب "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" كيف أعقب النكبة فرض حصار ثقافي على فلسطين، فكان بوسع قوات الاحتلال فرض السيطرة على نوع الكتب التي يُسمح بطباعتها في المؤسسات في الأراضي المحتلة، ولسنوات نفذ الاحتلال خطوات واضحة تَحُول دون نشأة جيل عربي مثقف، ففرض رقابته على المحتوى، وأغرق الأسواق بكتب "تافهة" و"رخيصة".

كان الشعر حينها هو مَن يلبي نداء المقاومة، إذ يمكن أن ينتقل دون أن يُطبع، ودون رقابة، من لسان إلى لسان، فنقل المقاومون الأهازيج والسحجات إلى المنفى، كان الميدان الحقيقي لأدب المقاومة هو القرى، وظل انتشار الشعر الشعبي عن طريق الحفظ الطريق الوحيد الذي لم يمكن حصاره. ففي الجليل وغيرها، كانت كثير من الأعراس تتحول إلى مظاهرات تتردد فيها الأهازيج، لكن مع انتشار أصوات الشعراء الشعبيين مثل نوح إبراهيم حرص الاحتلال على إسكات تلك الأصوات، وقنصها وهي فوق الأكتاف تردد الأهازيج وتثير حماس المقاومين وتدعمهم وتواصل رواية التاريخ للأجيال الجديدة.

كانت قوات الاحتلال تفتح النار على المتظاهرين، وتلقي القبض على "القوالين" ممن يرددون الشعر الشعبي، في أم الفحم كان مصرع شاعر شعبي عُرف باسم حميد وهو على رأس أحد التجمعات، فسّر كثيرون الأمر على أنه محاولة من الاحتلال لإسكات صوت "المواوايل" و"الميجنا" و"العتابا" وغيرها من الأنماط الغنائية الشعرية الشعبية التي بقيت تحمل صوت المقاومة (9).

 ترويدة غير مكتملة

يبقى السر في جاذبية الأغنية الشعبية في أنها تكمل مشهدا تاريخيا لا نعرفه كله، وترسم بالكلمات كيف كان الوطن، فجمال الأغاني الشعبية الفلسطينية يشي حقا بجمال فلسطين، وربما تكمن عبقريتها في أن مؤلفها مجهول، كما لو أن كل فلسطيني يؤلف كلمة منها.

تناقلت الأجيال عبر الرواية الشفوية تلك الأغاني حتى اليوم، وظلت في مجموعها ترسم مواطن الألم ومحطات الصعاب التي مر بها الشعب الفلسطيني، ويمكن من خلالها أن تعرف كيف بدت الحياة، وكيف كانت التقاليد، وكيف قهر الفلسطيني القهر، وفي بقائها إلى اليوم قصة مقاومة أخرى، بما في ذلك الحرص على التنقيب عنها وتسجيلها على لسان الجدات من جيل النكبة. وبقدر ما بقيت تراويد كثيرة تتردد وتُغنى، فُقِد كثير منها أيضا، الباحثة والمغنية سناء موسى، في بحثها عن التراويد، وجدت تلك الترويدة السابقة التي لم يمكن للجدة إكمالها، إذ خانتها الذاكرة، وظلت الترويدة غير مكتملة، لكنها باقية.

 

المصدر:الجزيرة