ماذا لو تمّ اغتيال جميع قيادات المقاومة؟
كتب: كمال ميرزا
في غمرة بحثهم اليائس عن أي نصر موهوم، كثُرَتْ في الآونة الأخيرة تصريحات قادة الكيان الصهيوني حول اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج؟
ماذا لو نجح الكيان في تنفيذ تهديداته؟
ماذا لو استطاع اغتيال "يحيى السنوار" و"محمد الضيف" وغيرهما من القيادات العسكرية والميدانية؟
ماذا لو استطاع اغتيال "إسماعيل هنية" و"خالد مشعل" وغيرهما من القيادات السياسية؟
ماذا لو استطاع اغتيال حبيب الملايين حول العالم "أبو عبيدة"؟
بل تعالوا "نشطح" بخيالنا أكثر!
ماذا لو أنّ الكيان قد تمكّن بالفعل من القضاء على "السنوار" و"الضيف" أو القبض عليهما، وهو مجرد ينتظر اللحظة المناسبة للإعلان عن ذلك؟
السؤال: هل سيغيّر هذا شيئا؟
من الأساليب المتّبعة في الحرب النفسية شيء اسمه "وجه الشيطان"، أي اختزال الخصم أو العدو في شخص واحد، وشيطنة هذا الشخص، وجعل الخطاب الإعلامي والدعائي ينصبّ عليه ويدور حوله.
الأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة: هتلر، موسيليني، ستالين، تشاوتشكو، صدّام حسين.. ومؤخّرا خلال الأزمة السورية بشار الأسد ووالده حافظ الأسد.
هذا الأسلوب الدعائي يحقق لأصحابه العديد من المزايا مثل:
- تهوين قوة الخصم وتسخيفها باعتباره ليس دولة بكامل مكوناتها ومؤسساتها وإمكاناتها ومواردها ومقدّراتها (أو تيارا أو حركة أو تنظيما بأكمله)، بل مجرد شخص واحد "شرير" تحيط به زمرة قليلة من "الأشرار"!
- التخفيف من وقع العدوان وهول الجرائم التي تُرتكب، باعتبار أنّنا لا نستهدف دولة بأكملها أو شعبا بأكمله أو أمّة بأكملها بعقيدتها وامتدادها الجغرافي والتاريخي والثقافي والحضاري.. وإنّما نستهدف "حفنة" من الأشرار.
- تسهيل التنصّل من الجرائم والفظائع والموبقات التي تُقترف، باعتبار أنّ المسؤول عنها هم هؤلاء "الأشرار" الذين يُجبرون "الأخيار" على اقتراف ما يقترفونه، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك في حالة الصراع العربي الصهيوني المقولة الشهيرة للمأفونة جولدا مائير: "لن نغفر للعرب أنّهم اضطرونا لقتل الأطفال".
- استعداء الشعب على قيادته "الشريرة" التي هي سبب عذابه ومعاناته، وتهيئة بيئة خصبة للخونة والعملاء وضعاف النفوس للغدر بهذه القيادة أو الوشاية بها أو التخلّي عنها.
- استغلال ثيمة الزعيم "الطاغية" أو "الفاسد" حيثما كان ذلك متاحا لتعزيز النقاط أعلاه. ومن هنا مثلا سبب دعم الغرب لكثير من الزعماء والأنظمة المستبدّة والفاسدة حول العالم، ليس فقط لأنّ الطغاة والفاسدين هم عملاء وأذناب أفضل، بل وأيضا لأنّ طغيانهم وفسادهم يسهّل عملية التخلّص منهم في المستقبل إذا استدعت المصلحة ذلك.
- تكامل هذا الأسلوب مع تكتيك آخر من تكتيكات الحرب الفسية وهو التعامل مع سواد الناس والشعب والجمهور باعتبارهم "أطفالا" قصّرا لا يعون مصلحة أنفسهم، وأعجز من أن يدركوا الأبعاد المعقّدة والمتداخلة والمتخصصة لما يحدث، والتركيز على مخاطبة عواطفهم وانفعالاتهم والتلاعب بها بدلا من مخاطبة عقولهم ووعيهم.
- تسهيل إنجاز "المهمة" من خلال تحقيق "انتصارات" صغرى ولو وهمية تُضعف من روح الخصم المعنوية، وتجعله يوقن بالهزيمة، وتدفعه لليأس والاستسلام. ولعل أشهر مثال في تجربتنا الحديثة مسرحية إسقاط تمثال "صدّام حسين" مع أنّ "صدّام" نفسه كان ما يزال على رأس السلطة والمقاومة العراقية ما تزال محتدمة.
في ضوء النقاط أعلاه، فإنّ من المعضلات الأساسية التي واجهت العدو الصهيوني وحلفاءه وأعوانه منذ بدء حرب الإبادة والتهجير التي يشنونها على غزّة صعوبة تطبيق مثل هذه الأساليب والتكتيكات على المقاومة.
فنموذج القيادة لدى المقاومة ليس فيه صيغة "تأليه الأشخاص"، والزعيم "الأوحد" أو "المفدّى" أو "المُلهَم"، أو زعيم "الضرورة"، أو الزعيم باسم "الوراثة" أو "السلالة".
والقائد في المقاومة يتّخذ صيغة "البطل" وليس "الزعيم"، وفي حال استشهاده لا يفنى ولا يطويه النسيان كحال الكثير من الزعماء الذين لا يجدون مَن يذكرهم بخير أو يترحّم عليهم، بل هو يتحوّل من بطل على أرض الواقع إلى "أسطورة" على المستوى الرمزي تشدّ أكثر من عود "المقاومة" كفكرة ومبدأ، ولعل المثال الأشهر في هذا السياق الشهيد الشيخ "أحمد ياسين".
نفس الكلام ينطبق على "أبو عبيدة" مع أنّ "أبو عبيدة" لا يُعتبر من القيادات بالمعنى الحرفي للكلمة. بل إنّ "أبو عبيدة" يتميّز عن بقية قادة وأبطال المقاومة بأنّه تحوّل إلى "أسطورة حضريّة" تُلهب خيال الناس ووجدانهم الفردي والجمعي صغارا وكبارا وهو ما يزال على قيد الحياة!
ونموذج القيادة في المقاومة لا يتّخذ الصيغة "الهرمية" الاعتيادية في التنظيم، والتي يكفي فيها القضاء على رأس الهرم حتى يتم عطب وشلّ المنظومة برمّتها.
فالمقاومة كما أظهر الواقع العملي والعملياتي تتبنى صيغة عنقودية تنتشر وتتوزّع أفقيا بدلا من أن تنضغط عموديا، وكلّ عنقود منها يتكامل ويتواصل مع العناقيد الأخرى، ولكنه في نفس الوقت يتمتع بهامش واسع من الاستقلالية والقدرة على الاستجابة والتكيّف واتخاذ القرارات في ضوء المعطيات العملية على الأرض، الأمر الذي يمكّنه من القيام بمهامه وأدواره بكفاءة وفعالية عالية، ويمنحه قدرة على الاستمرار والمواصلة بمعزل عن بقية أجزاء المنظومة.
كما أظهرت المقاومة أنّها تمتلك منهجية محكمة في نقل المعرفة والخبرات والإحلال والاستبدال والتسكين؛ بحيث إذا تمّ الإجهاز على قائد معين عند مستوى معيّن من مستويات القيادة فإنّ هناك أكثر من بديل جاهز للتقدّم فورا، وإشغال الموقع، وضمان استمرار وتيرة وسويّة الأداء والإنجاز.
والأهم من ذلك كلّه، صعوبة استعداء الناس على المقاومة، ففي حالة غزّة تحديدا فإنّ المقاومة كتنظيم وقيادة وعقيدة قتالية هي انعكاس لحالة الوعي والإيمان والثبات والصمود والتضحية والفدّاء والإصرار والمثابرة التي تجسّدها "الحاضنة الشعبية" وليس العكس.
هذا الكلام لا يعني أنّ اغتيال قيادات المقاومة ليست ضربة موجعة تترك آثارا وتتسبب بأضرار.. ولكن ضررها أهون بكثير مما يتوهّم العدو الصهيوني ويُمنّي نفسه، ففي حالة النجاح على سبيل المثال في اغتيال "السنوار" فالكّل من حيث المبدأ "سنوار"، وفي حالة اغتيال "الضيف" فالكل "ضيف"، وفي حالة اغتيال "أبو عبيدة" فالكل "أبو عبيدة".. وهكذا.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالفشل في إدارة الصراع وحسمه تؤدي إلى نتائج عكسية يجد الخصم نفسه معها مضطرا لتطبيق أسلوب "وجه الشيطان" على نفسه، موجّها سهام دعايته ضد بعض قيادات معسكره من أجل تحميلهم مسؤولية الفشل والإخفاق حتى لا يتم احتسابهما فشلا وإخفاقا للمنظومة ككل.
من هنا أصبحنا نشهد في الآونة الأخيرة تزايدا في الأصوات من داخل المعسكر الصهيوني نفسه التي تشيطن "نتنياهو" وعصابة حربه، وتشيطن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" وإدارته، وتشيطن بعضا من "أصدقاء" الكيان المخلصين من المسلمين والعرب والفلسطينيين.. وذلك لحفظ "خط الرجعة"، والتضحية بهؤلاء كـ "أكباش فداء" عند الضرورة بما يسهّل الانتقال إلى خطة (ب) في حال استنفاد الخطة (أ) وثبوت فشلها.
أي أنّ السحر سينقلب على الساحر، والذي كان يُشيطِن بالأمس هو الذي ستتم شيطنته والتخلّص منه اليوم!
وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، لن يطول الوقت قبل أن نسمع عن تهديدات وربما اغتيالات داخل جسد الكيان الصهيوني نفسه، وعلى رأس القائمة "نتنياهو" الذي يغدو التخلص منه يوما بعد يوم مخرجا وخيارا برّاقا في عيون الجميع